ليست المقاومة مبدأ أو مفهوماً نظرياً مجرداً، لكنها ممارسة عملية عميقة وممتدة، حيث تتنوع أشكالها وصورها، فهناك المقاومة الخشنة التي تتوسل بآلات القتال لتحرير الأرض، والمقاومة الاقتصادية للمؤسسات الرأسمالية العالمية، والمقاومة الثقافية للرؤى والأفكار والأطر المعرفية التي ينتجها الآخر ويتوسل بها إلى السيطرة والهيمنة على جماعة ما عبر إحداث تغيير في الكيفية التي تنظر بها إلى ذاتها أو إلى تاريخها.
وعلى الرغم من أن المقاومة عموماً والمقاومة الثقافية خصوصاً ترتبط بالقضية الفلسطينية، فإنها أعمق من ذلك؛ إذا تعود جذور المقاومة الثقافية إلى مطالع القرن الماضي حين تصدى الشيخ محمد عبده إلى تفنيد مزاعم هانوتو بشأن معاداة الإسلام للعلم والمدنية، وسار على دربه الشيخ مصطفى الغلاييني، وفريد وجدي في نقض مزاعم اللورد كرومر في كتابه «مصر الحديثة»، وتوالت بعدها محاولات تفنيد المقولات الاستشراقية بشأن الإسلام، وأدى رشيد رضا و«المنار» دوراً ملحوظاً في ذلك، لكنها لم تبلغ حد النقد الجذري للأسس المعرفية التي تنطلق منها الرؤية الغربية للإسلام التي يجسدها الاستشراق.
تأخرت محاولات نقد الاستشراق ومن ورائه المعرفة الغربية إلى الربع الأخير من القرن الماضي، وهذا التأخر يبدو مسوغاً لأنه يحتاج إلى فهم عميق واطلاع على البنية المعرفية الغربية، وهو ما كان ينقص الإصلاحيين الأوائل، ونهض به نفر من الدارسين الذين أقاموا بالغرب وتلقوا تعليمهم وفق مناهجه الحديثة، أمثال د. إسماعيل راجي الفاروقي، ورفاقه الذين أسسوا المعهد العالمي للفكر الإسلامي، وطرحوا فكرة «إسلامية المعرفة» باعتبارها تمثل بديلاً للمعرفة الغربية، حيث لاقت قبولاً واسعاً في حينها، واجتذبت مفكرين كثراً، إلا أنها تراجعت بفعل الانتقادات المعرفية التي وجهت إليها من الإسلاميين وغيرهم.
وبصفة عامة يمكن القول: إن هناك مرحلتين في نقد الاستشراق:
الأولى: نقد الاستشراق من منظور سياسي، وكان أبرز معالمها كتاب «الاستشراق» لإدوارد سعيد، الذي أحرز شهرة واسعة في حينه، وأسس نوعاً جديداً من النقد على أساس حضاري وسياسي، ذلك أن سعيداً اعتبر التصورات الاستشراقية حول الإسلام تصورات عنصرية لا تتسم بالحياد العلمي، وأنها تعود بجذورها إلى قرون خلت شهدت صراعاً مسلحاً بين أوروبا والعالم الإسلامي، وأرجع ازدهار الاستشراق الحديث إلى الظاهرة الاستعمارية، حيث سعت أوروبا إلى إنشاء مستعمرات لها في قلب العالم الإسلامي، وقدم لها المستشرقون المعلومات الأساسية التي تحتاجها للقيام بذلك، وهكذا غدا البعد السياسي حجر الزاوية في النقد الاستشراقي الجديد، وتقلص النقد الديني للاستشراق كما ظهر عن رجال الإصلاح.
الثانية: نقد الاستشراق من منظور معرفي، فقد لاحت في الأفق خلال العقدين الأخيرين إرهاصات موجة جديدة من مراحل النقد الاستشراقي، وتعتبر امتداداً لمرحلة سعيد بشكل أو بآخر؛ لأن القائمين عليها مفكرون عاشوا بالغرب وتوسلوا بالمناهج والأدوات الغربية، لكن انتقاداتهم للاستشراق جاءت من زوايا علمية ومعرفية أكثر رحابة من منظور سعيد.
وفي هذا السياق، يمكن الحديث عن مشروعين من مشروعات نقد المعرفة الاستشراقية عن الإسلام:
الأول: مشروع جورج مقدسي، المفكر الأمريكي المنحدر من أصول لبنانية، وقوامه نقض التصورات التي رسخها المستشرقون حول المذهب الحنبلي الذي وُصم دوماً أنه مذهب هامشي في الإسلام، كما افترض كارل بروكلمان، وأنه موسوم بالجمود والتطرف ومعاداة التقدم، كما زعم غولدتسيهر.
خلافاً لذلك، يحاجج مقدسي أن المذهب الحنبلي مذهب مركزي ولم يكن على الهامش قط، فمنذ تأسيس الحركة الحنبلية وجدت نفسها تحمل على عاتقها مهمة حماية السُّنة وتراث النبوة داخل الجماعة المسلمة ذاتها، ثم ضد كل من يهاجمها خارجاً، كما يرفض مقولة التشدد ذاهباً أن منشأها قلة أتباع المذهب عموماً وتأثر الغرب بالرؤية العثمانية، ومعلوم أن العثمانيين حاربوا الوهابيين الذين تمثلوا التراث الحنبلي، وهو يدلل على اعتداله من خلال مقارنته بالمذاهب الأخرى التي اندثرت كالمذهب الظاهري الذي تطرف في رفض العقل ممثلاً في مبدأ القياس الفقهي، معتمداً على النص وحده، لكن المذهب الحنبلي في المقابل يمزج بين العقل ممثلاً في القياس والنص، ولذا يتعذر وصمه بالتشدد والتطرف.
الثاني: مشروع وائل حلاق، الباحث الكندي المنحدر من أصول فلسطينية، ويدور حول هدم الادعاءات الاستشراقية حول تشكل الفقه الإسلامي وجموده.
وحلاق أحد نقاد الاستشراق البارزين، وله كتاب في نقد الظاهرة الاستشراقية، تم تعريبه تحت عنوان «قصور الاستشراق»، وهو لا يتبنى أطروحة إدوارد سعيد، وإنما ينفيها، ذاهباً إلى أن سعيداً نظر إلى الاستشراق بوصفه ظاهرة سياسية، وهذا نظر قاصر برأيه، لأنه يشبه النظر إلى قمة الجبل الذي يكسوه الجليد وهو مغمور بالماء، فما يخفى من الجبل أعمق وأكثر أهمية من ذلك الجزء الصغير الذي يبدو لنا، وعلى هذا يولي حلاق وجهه شطر المعرفة الحداثية بغرض دراسة المعرفة المهيمنة التي فرضتها أوروبا على العالم منذ القرن السابع عشر، التي أنتجت الاستشراق وصاغت الثنائيات الشائعة من قبيل المركز والهامش أو الغرب والشرق وما إليها.
يتمحور مشروع حلاق الفكري حول الفقه والشريعة، وهدفه الرئيس «زعزعة الخطاب الاستشراقي المؤرخ للحقبة التاريخية التي تشكلت فيها الشريعة الإسلامية وتكاملت، ألا وهي الفترة التي لا تتعدى القرون الأربعة الأولى من الهجرة»، ويفترض الخطاب الاستشراقي أن القرن الأول يمثل فراغاً تاريخياً لم يسده إلا اختلاق المسلمين الأوائل الحديث من العدم، واستدانتهم كثيراً من الأفكار والممارسات من الأديان والحضارات السابقة، ولأجل دحض هذا الخطاب الذي يصفه حلاق بالتهافت يدرس حلاق الفترة التأسيسية التي تشكل فيها الفقه الإسلامي مستعيناً بالأدوات الغربية، ومن خلالها يتوصل إلى الاهتمام الإسلامي بالحديث بدأ في وقت مبكر، وأن تبلور القواعد الأصولية بدأ قبل الشافعي، وأن الفقهاء المسلمين لم يكونوا مجرد نقلة عن الفقه اليوناني والروماني.
خلاصة ما سبق؛ إن حركة نقد الاستشراق تعد بشكل أو بآخر مظهراً من مظاهر المقاومة الفكرية في مواجهة ثقافة تسعى إلى الهيمنة والسيطرة عبر فرض رؤاها وتصوراتها على الآخرين.