السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، لو سمحتم، أستاذي الفاضل، أن أعرض لقرائكم الكرام سيرة حياتي من خلال نافذتكم بمجلة «المجتمع» الموقرة، وأنا لا أطلب منكم حلاً، فالجروح عميقة، وما زالت تستنزفني، وصاغت، بل عقدت حياتي بما يصعب أو يستحيل معها التواؤم ناهيك عن العلاج!
أنا فتاة في منتصف العقد الرابع من عمري، ورغم تميزي بالذكاء والحكمة، بشهادة أساتذتي، فإنني تعثرت في دراستي الجامعية، واضطررت للعمل وترك مقاعد الدراسة، وقررت منذ صباي ألا أتزوج؛ حتى لا أجني على أولادي كما جنى عليَّ والدايّ! ليس لي أي صداقات؛ لأنني منذ صباي وأنا أحقد على كل بنت تعيش في دفء والديها! فعندما كنت أذهب للعب مع صديقاتي وأجد والدين يجلسان معاً يتسامران أتعجب!
ولنعد إلى بداية مأساتي.. والدايّ! نعم كنت البنت الوحيدة، وأخ يصغرني، وآخر يكبرني، ووالدين من الناحية الشكلية، كانا يوفران لنا كل شيء، نعم كل ما يمكن أن يتمناه الأولاد كان متاحاً وبوفرة، كان كل منهما معنا بمفرده رائعاً، ويبذل جهده لإسعادنا وتربيتنا وانتظامنا في دروس القرآن والترفيه بالنادي.
ولكن، عادة ما يتحول أي حوار بين والدينا إلى مناقشة حادة تنتهي بخناقة، رغم كل ما كانا يبذلانه من جهود من أجلنا، فإنهما فشلا في أهم شيء؛ وهو أن نحيا في محضن آمن وننعم بالاستقرار العائلي؛ مما دمرني نفسياً أنا وأخَوَيَّ.
قررتُ منذ صباي ألا أتزوج حتى لا أجني على أولادي كما جنى عليَّ والدايَّ!
حالهما كانت إما خصاماً وإما شجاراً، عند الخصام نعمل ساعي بريد بينهما، ويُسمعنا كل منهما كلاماً غير لائق عن الآخر! وإن تصالحا فسرعان ما يدب الشجار، ونفر مذعورين كالفئران إذا ما سمعتْ صوت القط، نعم عندما أتذكر الآن كيف كان شعوري وخوفي واضطرابي عندما كنت أسمع صراخ أبي، تنتابني حالة من البكاء ولا أعلم كيف كنت أتحمل ذلك! أيضاً مما كان يؤلمني أن تذكر أمي أبي بسوء لأقاربنا أو صديقاتها.
كان أبي طيباً جداً، كثير السخرية والمزاح، ولكنه كان لا يُحسن اختيار ألفاظه، سريع الغضب إلى حد الثورة، ولكنه كان أيضاً سرعان ما يهدأ وينسى، بعكس أمي التي كانت حساسة جداً، رقيقة المشاعر، سرعان ما تتأثر وتبدي استياءها، رغم فهمها لشخصية أبي، فلا تنسى وتحتاج فترة حتى تعود لطبيعتها، لذا كانت الحالة النفسية لكل منهما مهيئة للاشتعال في كل لحظة ونحن وقودها.
عندما كنت في الصف الثاني عشر، ومع استمرار وتيرة حياتنا، أصبت بحالة من الجمود أو الجحود؛ ولم أعد أبكي عندما يهين أبي أمي، أو أحزن عندما تسب أمي أبي، وتعايشت وألفت ذلك! إلا أنه حدث البركان الذي زلزل حياتي وأخَوَيَّ؛ وهو طلاق والدَيَّ، أبي لم يطلق أمي فقط، لقد طلقنا معها!
إن قصة طلاقهما، أو بمعنى أدق حربهما، استمرت حوالي 3 سنوات، بدأت بخلاف وسباب وصراخ وتشابك بالأيدي، أدى إلى قطيعة بينهما، حيث أقامت أمي معي في غرفتي، وطلبت الطلاق، ولكن أبي رفض وحاول معها كثيراً، لكنها أصرت، وعشنا في جزيرتين منفصلتين، وارتحنا من خلافاتهما إلا من بعض القذائف اللفظية.
والدك لا يمثل كل الأزواج فهناك العديد الذين يقدرون قيمة الحياة الزوجية
لجأت أمي للمحاكم طلباً للطلاق؛ مما أثار حفيظة أبي؛ فانهال عليها سباً وضرباً، وحضرت الشرطة، واستشهدت أمي بنا بما فعل بها أبي، وكانت ليلة سوداء قاتمة حالكة ما زلت أعيشها، نظرات أبي التي تتوعدنا لأننا شهدنا بما فعله بأمي، لم نعد إلى بيتنا، وأقمنا لدى خالي وتكدسنا في شقته مع أسرته، وامتنع والدي عن الإنفاق علينا، متعللاً بانتظار قرار القضاء، كانت فترة ذليلة، وكانت ظروف خالي المادية لا تسمح بأي أعباء أخرى؛ مما اضطرت أمي إلى العمل والاستقلال بشقة أقل من متواضعة.
حاول خالي إقناع أمي بالتنازل عن دعوى الطلاق، وتحت توسلاتنا ورأفة بنا وافقت أمي، وكم كانت فرحتنا! وكم كانت صدمتنا برفض أبي! كانت قد مرت عدة أشهر، لم أرَ أبي منذ الليلة السوداء، ولم يطلب أن يرانا! وقد اشتقت إليه، فكلمته، وكم كانت صدمتي عندما رأيت جموده معي! واستعطفته أن نعود لبيتنا، فقال: إن أمي إنسانة عنيدة وتتعمد مخالفته؛ مما حوَّل حياته معها إلى جحيم، وكان صابراً عليها من أجلنا، هي التي أصرت على الطلاق، وإننا شهدنا ضده فنتحمل ذلك!
كنت ما زلت أحلم ببيتنا، ولكنني صُدمت عندما وجدت أمي في حالة ذهول وهي تستلم الحكم بطلاقها! وكم صدمت لضياع حلمي، وكم أيضاً كانت دهشتي لحالتها، وسألتها: ألم ترفضي مساعي أبي بعودتنا للبيت؟
قالت: والدك هو الذي دفعني دفعاً لطلب الطلاق.
فقلت: لماذا لم تفكري فينا؟ ألم يكن لك أن تتخلي عن حساسيتك المفرطة وتتحلي بالصبر، ولا تثيري غضبه حتى لا تحطمينا أنا وأخوي؟ كم من مرة نصحتك جدتي ألا تثيري غضب أبي؟
قالت: أبوك السبب، أنا مجنيٌّ عليَّ، حتى في فترة خطوبتنا كان سريع الانفعال والغضب!
بادرتها: ولماذا تزوجته إذن؟!
من الطبيعي أن نتألم.. لكن ليس من الحكمة أن نعيش مع اجترار الأحزان
قالت: قلت: سوف يتغير بعد الزواج، ولكنه استمر على حاله.
قلت: كنت تعاندينه وتتعمدين أن تعملي عكس طلباته، أنت السبب فيما نحن فيه!
قالت: لست أنا وحدي المسؤولة.
قلت: أمي، قرار طلاقك لا يتعلق بك وحدك فتقيسينه من منطلق تأثيره عليك فقط! ولكننا تأثرنا كما ترين، أخي الصغير كما تعلمين منذ الليلة المشؤومة قد أصيب بالتلعثم، أما الأكبر فلا نعلم عنه شيئاً، وقد ضاع مع رفقة السوء!
هنا انكفأت أمي على أحزانها تبكي، وقد ضاع منها كل شيء، وأنا تعثرت في دراستي واضطررت للعمل، كم أنا أمقت حياتي، أرى في كل رجل أبي، إنَّ ظلَّ أبي يلاحقني، طبعاً أنا مثل كل فتاة تحلم ببيت يكون مملكتها وبطفل تداعبه، ولكن عندما أتذكر أنه سيشاركني فيه زوج؛ سرعان ما يجثم على قلبي كابوس أبي!
لقد انزويت عن الحياة، ليست لي صديقات، أرجع من عملي وأغلق عليَّ غرفتي لأجترّ ذكرياتي الأليمة.
أعلم أنه ليس هناك حل لمأساتي، ولكنني من باب الشفقة على من يُقدمون على الزواج: «لا تجنوا على كائنات كنتم سبباً في وجودهم ثم تحطمونهم»!
ما زالت أمامك فرصة لبناء حياتك ولا تجعلي أخطاء غيرك تدمر مستقبلك
الرد
أيها القارئ الكريم، لعل هذه الرسالة من أكثر الرسائل التي آلمتني، لما فيها من ظلم من الوالدين لفلذات أكبادهما، والموضوعات التي تناولتها من أكثر الموضوعات أهمية في قضايا الأسرة، وهي: متى أصل إلى قناعة شرعية -وأؤكد شرعية وليس مجرد هوى- للطلاق؟ وكيف يتم الطلاق؟ وكيفية إدارة مرحلة ما بعد الطلاق؟
ونظراً لضيق المساحة، سأتناول بالرد على صاحبة الرسالة، على أن أتناول كل محور من محاورها بمشيئة الله في الحلقات القادمة.
أولاً: استعادة ثقتك بنفسك وممارسة حياتك:
أنا معك ومقدر كل الآلام التي تحملتها سواء الناجمة عن سوء العلاقة بين والديك، وكذلك معاناتك أنت وأخويك بعد الانفصال، ومن حقك أن تتألمي خاصة أن السبب في ذلك والداك، ولكنْ هناك فرق أن نتألم لما نواجهه في هذه الدنيا، وأن يؤثر ذلك على ذواتنا، فمن الطبيعي أن نتألم، ولكن ليس من الحكمة أن ندمر أنفسنا بالعيش في بوتقة من اجترار الأحزان، ونظل ندور في دائرة مغلقة من الهموم وندب الحظ، هناك قصص ناجحين ومبدعين كانوا في بدايتهم مشردين، أو نشؤوا في أسر مفككة، إليك بعض الأمثلة:
– إحدى الشخصيات البارزة التي واجهت تحديات في طفولتها ابن خلدون (1332 – 1406م)، المؤرخ والفيلسوف الإسلامي، وُلِد ابن خلدون في تونس، وكانت حياته مليئة بالتحولات والصعوبات، حيث بدأت في ظروف صعبة؛ فقَدَ والده وهو صغير، وتعرضت عائلته للنزوح والاضطهاد في بعض الأحيان.
– ج. ك. رولينغ، الكاتبة البريطانية المشهورة بسلسلة «هاري بوت»، كانت تعيش في حالة فقر شديدة، وكانت مشردة قبل أن تكتب أول رواية لها.
– كريس غاردنر: قصة حياته قدمت في فيلم «The Pursuit of Happyness»، حيث كان مشرداً وواجه العديد من التحديات قبل أن يصبح مستشار استثمار ناجحاً.
– أوبرا وينفري: نشأت في أسرة مفككة وتعرضت للعديد من التحديات في طفولتها، ولكن أصبحت واحدة من أشهر شخصيات التلفزيون ورائدة الأعمال الناجحة.
هذه الأمثلة تظهر كيف يمكن للأفراد تحقيق النجاح والإبداع حتى في ظروف وأوقات صعبة في حياتهم.
إن ما واجهته من معاناة يجب أن يكون دافعاً لك على تحقيق حلمك في حياة سعيدة.
يجب عليك، بداية، محاولة فهم سنن الله تعالى في خلقه، فكل إنسان مسؤول عن تصرفاته فيما ابتلاه الله به في هذه الحياة الدنيا؛ (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) (هود: 7)، وأن الله عادل، وأي ألم يواجهه المسلم يأجره عليه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ» (رواه أبو هريرة، صحيح البخاري، 5641).
لذا، عليك أن تخرجي للحياة الاجتماعية من خلال مشاركتك في الأنشطة الاجتماعية التطوعية التي يقدمها المسجد القريب لك، والاندماج مع زميلاتك بالعمل وجاراتك وبناء صداقات قيمة.
حاولي أن تبدئي بالبحث في استكمال دراستك الجامعية، وإن لم تجدي لك الميل الكافي فالتحقي بحلقات تحفيظ القرآن.
ثانياً: الزواج:
إن والدك لا يمثل كل الأزواج، هو مجرد واحد يمثل نفسه فقط، وهناك العديد من الأزواج الطيبين الذين يقدرون قيمة الحياة الزوجية، إن ما وصلت إليه الحياة الزوجية لوالديك نتيجة طبيعية لخطئهما معاً، وأيضاً هناك العديد من الزيجات الطيبة المباركة.
كما يمكنك الاستفادة من أخطاء والدتك -التي عايشتها وعانيت من آثارها السلبية- بما يجنبك من تكرارها.
ما زالت أمامك فرصة لبناء حياتك، ولا تجعلي أخطاء غيرك تدمر مستقبلك، والله معك.