شَرَعَ الإسلامُ الجهادَ، أو القتالَ، أو المقاومةَ لسببين؛ الأول: منع الاعتداء على الأوطان؛ لقول الله تعالى: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [البقرة: 190]، والسبب الثاني: منع إكراه المسلمين على الخروج من دينهم؛ لقوله تعالى: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوَانَ إِلاّ عَلَى الظَّالِمِينَ) [البقرة: 193].. ومع ذلك فإن الإسلام حريصٌ على العودة إلى أجواء السلام فور زوال أسباب الحرب؛ (وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ) [الأنفال: 61]، (فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلا) [النساء: 90].
قواعد فقهية
وقد أجمع فقهاءُ المسلمين، على امتداد عصور الإسلام، على وجوب القتال دفاعًا عن أوطان المسلمين، بل إن جميع الشرائع السماوية والمواثيق الدولية وهيئات حقوق الإنسان تحفظ للشعوب حقها في السيادة على أرضها وردّ العدوان.. ويفرّق فقهاؤنا بين الإرهاب من ناحية، وحق المقاومة المشروعة من ناحية أخرى، فالإرهاب يعني استخدام القوة لفرض الرأي أو المعتقد، أو الإكراه على اعتناق فكرةٍ ما، أو الاعتداء على النفس البشرية، أو استباحة الدماء وإزهاق الأرواح، أو التعذيب النفسي والبدني، وهي أمورٌ لا يقرُّها الإسلام.. كما يفرّق علماؤنا بين أعداء الأمة الذين يستبيحون بيضتها وينتهكون حُرمتها، فهؤلاء ليس لهم إلا السلاح، وبين المسالمين والمعَاهَدين فهؤلاء لهم حق الإسلام وواجب الأمان والوفاء بالعهود.
الخلط بين المفهومين
ومما يُؤسفُ له أن نخبًا وأنظمة سياسية في بلاد العرب والمسلمين تخلط بين المفهومين، وتضع المقاومة في سلّة واحدة مع الإرهاب؛ اتّباعًا للحملات الدولية التي ترعاها دوائر صنع القرار في أمريكا والكيان الصهيوني؛ من أجل تشويه الجهاد، ووأد حركات المقاومة التي تدافع عن أوطاننا ومقدساتنا ولنيْل استقلالنا وحريتنا.. وإنّ من أكبر الأخطاء نسبةَ الظاهرة إلى المسلمين وغضّ الطرف عن الاحتلال العسكري والذي تُمارَس من خلاله أبشع صور إرهاب الدولة من أعمال التصفية والإبادة الجماعية وانتهاكات حقوق الإنسان.. إن تحرير الأوطان من الأعداء وصوْن دين الله من المتربصين به، يحتاجان إلى قوة تفتت جمع المتآمرين وتردع الغاصبين، فصارت المقاومة واجبًا على المسلمين خصوصًا بعدما يئست الشعوب من تحرّك جيوشها ونفرة قوّاتها النظامية.
عواقب ترك الجهاد
أينما وجهت وجهك وجدت المسلمين مضطهدين، تُنتهك أعراضُهم، وتُنتقص كرامتُهم، ويُقتلون ويُشرّدون، وقد صدق فيهم قول القائل: (تحالفت الأفاعي والعقارب… وأُجلبت الذئاب مع الثعالبْ؛ وأقبلت الوحوشُ لها نيوبٌ… مسممةً تعاضدها المخالبْ)؛ حيث تداعت عليهم الأمم، فاستباحوا حِماهم، ونزلوا بهم منزلَ الغالب على من لا خبرة له بقتال وليس له ناصر، فصاروا أمة مهيضة تُقتطع أرضها، وتُنتقص حدودها، وتعيش في كل ساعة محنة، وقد علاها الذلُّ، وتفكك منها المتصل حتى نسيت كتاب ربها أو كادت.. وما أطمع الكفار فينا هو سوء فهمنا لمعنى المقاومة، وتركنا للجهاد، تلك الفريضة الماضية إلى يوم القيامة، فلا يبطلها عدلُ عادلٍ ولا جورُ جائرٍ، وما تركها قوم إلا ذُلُّوا، ولأننا –واأسفاه- انتظرنا الإنصاف من أعدائنا، ومن منظماته الأممية التي أنشؤوها لخدمة أغراضهم وتنفيذ مخططاتهم.
عالَم ظالم بغيض
إنّ من يستعرض تاريخ الغرب مع المسلمين، يجده حافلاً بالجرائم البشعة، المنافية لأبسط قواعد الإنسانية؛ فقادة الغرب وبابوات الكنائس بمجرد شعورهم بضعف المسلمين، وجّهوا إلى بلادنا ثماني حملات صليبية، استمرت لقرنين من الزمان، أذاقوا خلالها المسلمين ألوانًا من العذاب ما لم تعرفه البشرية من قبل.. وبعدما فشلت تلك الحملات انقضّوا على المسلمين في الأندلس، فقاموا بتصفيتهم وإخراجهم من القارة التي استوطنوها لثمانمائة عام، وأنشؤوا محاكم التفتيش التي ارتكبوا من خلالها جرائم يندى لها جبين الإنسانية.. ثم شنّوا حملاتهم (الاستخرابية)، على العالم الإسلامي -فيما عُرف بحقبة الاستعمار-، والتي قادتها حفنة متعصبة أعماها حقدها الأسود حتى صارت أقسى من الحيوانات في سلوكها.. ورأينا أحفاد هؤلاء البرابرة المعاصرين يدفنون آلاف الأحياء في البوسنة، ويغتصبون آلاف النساء، وتكررت تلك الجرائم في أفغانستان والعراق وغيرهما، فما خرجت أمةٌ من أممهم وقالت هذا إرهاب، بل بارك الجميع هذه الأفعال؛ دليلاً على أن الكفر ملة واحدة.
الصهيونية هي عين الإرهاب
أما أكبر جريمة ارتكبها الغرب ضد المسلمين، فهي زرع الكيان الصهيوني في منطقتنا؛ ليستزفها وليبقى هناك جرحٌ دائمٌ يسبب الألم والمرارة لكل مسلم، لقد دُشّنت هذه الدولة اللقيطة على يد بريطانيا، العدو التاريخي للمسلمين، وتولت رعايتها بعد ذلك الولايات المتحدة، الشيطان الأكبر.. وكما دعمت الكنيسة الحملات العسكرية على بلاد المسلمين، فكذلك دعمت الوجود اليهودي في فلسطين، وما بين يوم وليلة تحوّل اليهود من أعداء للكنيسة والغرب إلى أصدقاءٍ لهما.. وقد توحشت هذه الدولة والتفّت كالحية على مَنْ حولها من بلاد العرب، ودخلت أكثر من حرب مع هذه الدول، خسرنا خلالها أجزاءً من أراضينا وآلافًا من أبنائنا.. ومنذ ولادتها لم تتوقف لحظة عن محاولات القضاء على شعب فلسطين حتى تشتّتت غالبيته، ومن بقي منهم ضيّقت عليه كل سبل العيش.. والوضع في فلسطين الآن لا يحتاج إلى تعليق، وما رآه العالم من حصار لأهل غزة ومن مجازر في حرب «طوفان الأقصى» يلخّص إرهاب الصهاينة وإجرامهم الذي ليس مثيل.
لا بد للحق من قوة تحمِيه
يقول «صاحب الظلال» في تفسير قوله تعالى: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ… الآية) [الأنفال: 60]: (إنه لا بد للإسلام من قوة ينطلق بها في الأرض لتحرير الإنسان، وأول ما تصنعه هذه القوة –في حقل الدعوة الإسلامية-: أن تؤمِّن الذين يختارون هذه العقيدة على حريتهم في اختيارهم فلا يُصَدُّوا عنها، ولا يُفتنوا كذلك بعد اعتناقها. والأمر الثاني: أن ترهب أعداء هذا الدين فلا يفكروا في الاعتداء على دار الإسلام التي تحميها تلك القوة. والأمر الثالث: أن يبلغ الرعب بهؤلاء الأعداء ألا يفكروا في الوقوف في وجه المدّ الإسلامي وهو ينطلق لتحرير الإنسان كله، في الأرض كلها. والأمر الرابع: أن تحطّم تلك القوة كل قوّة في الأرض تتخذ لنفسها صفة الألوهية). ويقول الدكتور «محمد السيد جبريل» في تفسير الآية ذاتها: (إنها تصرّح بتوجيه الأمر للمسلمين بإعداد القوة لإرهاب الكفار، ولا نجد إرهابًا يورث العالم كله أمنًا وسلامًا وحضارة ورضاء مثل إرهاب المسلمين للكفار).
___________________________________
كاتب صحفي وباحث مصري.