هذا شتاء لم أشهد له مثيلاً من قبل، تتكرر الأحداث فيه لكننا نعاني من داء «العتة» التي تأكل الحوائط والثياب؛ الأخشاب التي اختزنتها أمي نفدت، ماتت العنزات الصغيرة، حتى الجراء تبدو مصابة بهزال شديد، تضرب الريح في عداوة حاقد، يحيط بنا الموات من كل ناحية، يوشك ما لدينا من غطاء أن يتمزق؛ نتكور فيه ولا يجدي، نشعل نارا لكنها سرعان ما تخمد، أي شتاء هذا!
ثمة أقاويل أن غولا يربض عند حنية النهر يلتهم أشعة الشمس، يرمي بها بعيدا حيث بلاد نساؤها صفراء؛ أحال ثلجها أنهارا تجري.
حين يأتي الليل نحلم بدفء وطعام ساخن، وجبة العشاء صارت عديمة النفع، حتى حكايات الجدة مملة؛ تعيدها دون إضافة، لا ندري متى سيأتي ذلك المنتظر كأنه في غيابة جب.
لجارنا أبو أحمد فتاة رائعة الجمال يذكرها عازف الربابة ويثني على جمالها المواوي الذي يكثر من التنقل في البر كله، تغني البنات عند موردة النهر، جمالها حلو وخدها تفاح، بنت أبو أحمد قرص عسل مدور، يطرق بابها كل يوم خاطب، كل فتيان القرية طلبوا يدها، في الحقيقة لم يرفض واحداً منهم؛ يكون الخير حين يأتي موسمه الذي ينتظره الناس منذ زمن؛ كل الشباب خطب الفتاة منه شرط أن يأتي الربيع، ظلوا هكذا يحلمون بتلك الفتاة الجميلة؛ يرسم أحدهم لها صورة وهي تتراقص مع زهور المشمش؛ تعلمون أنه لا يلبث إلا قليلاً، ومن ثم يعد به الذين لا يوفون.
حين علمت به حزنت لأجله؛ لم يقدم لها قرطاً ولم يهبها أسورة، لا يملك غير الوهم يقتاته في ليالي الشتاء التي تفترس النهار.
ملت من سنوات توشك أن يغمرها اليأس فتبقى مثل شجرة التوت العملاقة، التي هجرتها العصافير تساقطت أوراقها في الخريف ولم يعد يزورها الربيع، سكنت جذوعها الفئران، وللجن فوقها وكر تحيك فيه الشرور.
آخرون جلسوا مع عقارب الساعة يحصون الدقائق والثواني، مع حركتها يثملون بقرب اللقاء.
جدتي تكثر من وصف جمالها، عيناها خضراء، شعرها أطول من ذيل الحصان؛ لا تجد صورة أبدع من هذه.
أبو أحمد جارنا لا يكذب أبداً، ولم يخلف في موعده، انتابه حزن شديد، ظل يتفرس في الذين طلبوا يد ابنته، لم يفعلوا شيئاً غير أن يتسلوا بالحكايات القديمة، تحسر لأنها لن تتزوج هذا العام، عليه أن ينتظر، ركب حمارته التي تخطو به على جسر النيل، وحين رآه المتسكعون في طرقات القرية سألوه: إلى أين تذهب يا عم؟
أجابهم: أبحث عن الربيع الذي لم يأت أوانه، رأوه يرسل مع العصافير برقية إلى القمر يحثه أن يغازل الشمس، ومن ثم تلد فجراً بلون الحلم الوردي.
هؤلاء لم يتكتموا سخريتهم منه؛ أكد واحد منهم أن العم أبا أحمد مصاب بنزلة برد شديدة أفضضت به إلى حمى قاتلة؛ إنه يهذي.
آخر: يبدو أن الرجل حين استبطأ قدوم الربيع خرج ليأتي به من بلاد الأحلام.
ثالث ورابع بل عاشر ضحكوا جميعاً؛ ستكون ابنته بلهاء مثله، ضج هؤلاء بعبث لا مثيل له.
يتسلون بتفاهات لا تجدي، يمصمصون شفاههم ويسيل ريقهم ولا يشبعون.
انصرف الجميع عن هذا الحلم؛ فالثعلب يفعل ما يريد دون أن يقف له حارس.
تسامع أبو أحمد بسخريتهم، مضى في سبيله، زادت حسرته، فقد صار شيخاً كبيراً؛ يود لو أتى الربيع حتى يزوج ابنته؛ يشيع خبر غريب؛ الثعالب تتخطف الفتيات الحسناوات، وهو رجل فقير لا يملك أبقاراً ولا عنزات لتستعين بها بعد مماته.
ولأن الشتاء طال كثيراً، انصرف الذين طلبوا يد ابنته، لم يعد بابه يعرف الزائرين، جدتي دبرت حيلة؛ فأنا أحد الذين خطبوا ابنة العم أحمد؛ ذكرت لكم من قبل ذلك.
أو لعلني نسيت هذا، على أية حال؛ أسراري أتكتمها كثيراً؛ جدتي تنصحني دائماً بأن أرمي بها في البئر.
أعدت بضعة أرغفة محشوة بلحم، أخذت معها طبق حساء ساخن، اشترت ثوباً مطرزاً بألوان جميلة، لم تنس زهور الصبار التي خرجت مبكراً، حملت معها أقماع السكر.
طرقت جدتي الباب، هش لمقدمها عم أحمد، جاءت ابنته فرحة، حين رأت الثوب المطرز بزهور جميلة، وحين تناولت قطعة من السكر؛ أخبرتهما جدتي أنها جاءت بالربيع!
كنت الوحيد في القرية الذي يعرف بربيع، تفاءل العم أحمد؛ لكنه لا يريد أن يخلف وعده للآخرين، احتالت جدتي: أن يأتي من يريد خطبة الحسناء بزهرة الربيع قبل غيره، شرط أن يكون الآن!
ولما لم يكن باستطاعة أحدهم أن يحضرها قبل أن تتفتح براعم الأشجار التي ارتدت عباءة الشتاء زمناً يصعب عد أيامه؛ أخرجت زهرة الصبار المر وقدمتها للعم أحمد!
تلك الفتاة الجميلة كانت تنتظر مقدمي؛ فللرجل دفء يعجل بقدوم الربيع، تزهو بحملها، تصاحبها أحلام العمر الجميل.
تدور محرقة، تتساقط السماء كتل نار على أهلنا هناك، لا طعام ولا كساء، فقط كلمات جوفاء، غير أنه وجد مهر الفتاة حبات برتقال أرسلها حيث الجوعى في غزة، ربما يأتي من هناك الربيع.