عم ربيع، هذا الرجل البسيط بائع الفاكهة ربما لا يتابع من الأخبار إلا ما ندر، لا يعنيه أمر الشهرة ولا التقاط الصور ليضعها في العالم الأزرق لينال «اللايكات» والإعجابات ويدخل عالم «الشير»! لكنه في لحظة نحسبها عفوية بسيطة خرج من عالمه الصغير إلى عالم أكبر وأكبر؛ فصار حديث القاصي والداني، التقط له مشهد وهو يلقي بعض حبات البرتقال على سيارة تحمل المواد الغذائية لأهالي غزة.
الإعجاب والانبهار ليس بهذه الحبات التي ألقيت، ولكن بالقلب الذي حملها بهذه الرسالة الماتعة الرائعة؛ عفوية وبساطة فتحت له القلوب وجعلته حديث الناس.
العجيب أننا نرى من يدفع جل وقته وماله لينال جزءاً من هذه الشهرة، لكن البساطة والعفوية أوصلته لما لا يصل إلينا الكثير والكثير!
ألا تذكر معي الشيخ وليد مهساس، إمام مسجد أبي بكر الصديق الجزائري، في مشهد عجيب وقدر من أقدار الله حيث ألهب مواقع التواصل بمقطع فيديو من صلاة التراويح مع قطته التي قفزت على صدره فتعامل معها بعفوية ولطف ورأفة ورحمة، ثم صعدت إلى كتفه وقبَّلته قبل أن تغادر في هدوء وسكينة، ويقولون عن مشاهدات هذا الفيديو: إنها تجاوزت المليار و600 مليون مشاهدة في يوم واحد.
البساطة خلق رائع جميل محبوب للقلوب، الإنسان البسيط في كلامه وأفعاله يلج قلوب من حوله، أما التصنع والتجمل فيرتبط بالخداع والنفاق.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يصف نفسه بأنه بسيط وليس متكلفاً؛ (وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ) (ص: 86)، ومواضع أخرى تكلمت عن خلق البساطة، فقال تعالى: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ) (لقمان: 18)، وقال في موضع آخر: (وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ) (الشعراء: 215).
كان صلى الله عليه وسلم حياته مثالاً واقعياً للبساطة في مسكنه ومأكله وملبسه، تروي أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: «كانت وسادة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ينام عليها بالليل من أدم حشوها ليف» (رواه أبو داود).
ويقول الشيخ محمد الغزالي، في كتابه «ليس من الإسلام»: إن البساطة سُّنَّة الإسلام في كل شيء، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: نهينا عن التكلف، وعن ابن مسعود رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ألا هلك المتنطعون.. ثلاث مرات»، والتنطع مجانبة الفطرة بالمزيد من التكلف والاستقصاء، قال الفضيل بن عياض: إنما تقاطع الناس بالتكلف، يدعو أحدهم أخاه فيتكلف له، فيقطعه عن الرجوع إليه.
وروى عن أنس بن مالك وغيره من الصحابة أنهم كانوا يُقدمون لإخوانهم ما حضر، من الكسر اليابسة وحشف التمر، ويقولون: لا ندري أيهم أعظم وزراً؛ الذي يحتقر ما قدم إليه، أو الذي يحتقر ما عنده أن يقدمه؟!
وما أروع ما كتبه د. سلمان العودة: أحب العفوية والبساطة والوضوح والصفاء، وأكره اللغة الممسوسة بالتحليل والتفسير والاستبطان، المولعة بقراءة المقاصد والنوايا وملء الفراغات بما تشتهي.
بساطة الجيل القرآني
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: جَاء رجلٌ إلى رَسولِ الله صلى الله عليه وسلم فقالَ: إنِّي مَجهُود، فأرسلَ إلى بعضِ نِسائهِ، فقالتْ: والذي بعثكَ بالحقِّ، مَا عندِي إلا ماءٌ، ثُم أرسلَ إلى الأُخرى، فقالتْ مِثل ذلكَ حَتى قُلن كلُّهُن مثلَ ذلك: لا، والذي بعثكَ بالحَق، ما عِندي إلا مَاء، فقالَ: «مَن يُضيف هذا الليلةَ، رحمه الله؟»، فقام رجلٌ مِن الأنصَار فقال: أنا، يا رسولَ الله، فانطلقَ بهِ إلى رَحله، فقال لامرأتهِ: هل عندكِ شيءٌ؟ قالت: لا، إلاَّ قوت صِبيَتي، قال: فعلِّليهم بشيءٍ، فإذا دخلَ ضيفُنا، فأطفئي السِّراج، وأرِيه أنَّا نَأكل، فإذا أهوى لِيأكل، فقُومي إلى السراج حتى تُطفئيه، قال: فقعَدوا وأكلَ الضيفُ، فلمَّا أصبحَ غَدا إلى النَّبي صلى الله عليه وسلم فقَال: «قد عَجبَ الله مِن صَنِيعِكُما بضيفِكُما الليلةَ» (رواه مسلم).
وقد فقه السلف الصالح أهمية خلق التواضع فيقول أبو بكر الصديق رضي الله عنه: «وجدنا الكرم في التقوى والغنى في اليقين والشرف في التواضع»، وعن ابنته عائشة رضي الله عنها قالت: «تغفلون أفضل العبادة: التواضع»، وعن عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: «من تواضع لله تخشعاً رفعه الله يوم القيامة ومن تطاول تعظماً وضعه الله يوم القيامة».
البساطة في الدعاء
وقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ لرَجُلٍ: «كَيفَ تقولُ في الصَّلاةِ؟»، قالَ: أتَشَهَّدُ وأقولُ: اللَّهمَّ إنِّي أسألُكَ الجنَّةَ، وأَعوذُ بِكَ منَ النَّارِ أما إنِّي لا أُحسنُ دَندنتَكَ ولا دَندنةَ مُعاذٍ فقالَ النَّبيُّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ: «حولَها نُدَنْدنُ» (رواه أبو داود).