شكَّلت الرحلة البحرية الأندلسية ظاهرةً أدبية وتاريخية، فقد كان اهتمام الأندلسيين في البحر على اعتبار أن بلادَهم شبهُ جزيرةٍ ممتدة على بحر الروم (البحر المتوسط) من الجنوب والشرق، وتُشرف على بحر الظلمات من جهة الغرب، وقد أَثَّرَ البحرُ في حياة الناس في الأندلس، وأدى دوراً في أسفارهم، ومعاشهم، وفي علاقاتهم مع الشعوب الأخرى خلال العصر الوسيط، فكانت الرّحلةُ الأندلسية التي لم تقتصر على بحر الروم وصولاً إلى العُدوة المغربية أو البرّ الشامي والمصري، إنما تعدت ذلك إلى مناطق مجهولة في أعماق بحر الظلمات ووصولاً إلى للعالم الجديد.
الرحلة الأندلسية والمتخيل
كان المثلُ اليوناني القديم: «إذا أردت أن تنام فاذهب إلى الكنيسة، وإذا أردت أن تُصلي فاذهب إلى البحر»، فأماكن العبادة هي أماكنُ للراحةٍ والطمأنينة، أما البحر فكان يُخوَّف به الناس ويُعد مكاناً للاستغفار وغسلِ الذنوب، وقد وجدت هذه التخيلات طريقها إلى الأدب الأندلسي، فَنُسجت أساطير خيالية وعجيبة عن بحر الظلمات في المصادر العربية القديمة، ونجد روايات كثيرة لدى البكري يتحدث فيها عن أهوال المحيط وتأثيراته على ذهنية الناس في الطرف الغربي للعالم الإسلامي «زعموا أن في البحر الأخضر عرش إبليس حوله نفرٌ من الأبالسة والعفاريت العظام، وفي هذا البحر جزائر لا تزال على مر الزمان تقذف ناراً تعلو مائة ذراع وأكثر، وفي هذا البحر أسماك طيارة تطير ليلاً فترتعي في البراري، فإذا أزف طلوع الشمس عادت إلى البحر»، فقد كان هذا البحر لُغزاً مجهولاً لدى الناس، وكما الإدريسي في الأخطار والمشاق المهولة في المحيط «ولا يعلم أحدٌ ما خلفَ هذا البحر المظلم ولا وقف بشرٌ منه على خبرٍ صحيح لصُعوبة عُبوره وظَلامِ أنواره وتعاظُم رياحه».
الرحلات الأندلسية إلى العالم الجديد
على الرغم من خوف الأندلسيين من أخطار المحيط الأطلسي، وتأثير القصص الغرائبية التي رُويت عنه على الأفكار والسلوكيات، لكن ذلك لم يمنع بعض الرحالة من خوض غماره والتعرف عليه، وتركت رحلاتهم آثاراً اجتماعية واقتصادية وثقافية ونفسية على ساكني المغرب والأندلس، فيُحدثنا الإدريسي عن رحلة الإخوة (المغّرورين أو المغرَّبي ) في القرن التاسع الميلادي، وهم ثمانية شُبانٍ بحريون من الأندلس أبحروا من لشبونة عبر نهر الوادي الكبير وبقوا مُدَّةَ أحد عشر يوماً داخل المحيط حتى بلغوا جزيرةً سموها جزيرة الغنم (ماديرا بعد الكشوف الأوروبية)، وقد سُميت بهذا الاسم؛ لأنهم أبصروا أعداداً هائلة من الغنم في الجزيرة، فيبدو أنهم أول من كشف عن وجود الجزيرة، وبعد ذلك أبحروا نحو الجنوب فوصلوا قرب جزيرة قام أهّلُها بأسرهم (وهي جُزر الخالدات أو الكناري..).
أما المغامرة الأندلسية الثانية ذكرها المسعودي في كتابه «مروج الذهب»، إذ قام بها بحارة مسلم من أهل قُرطبة يُدعى خشخاش بن سعيد بن أسود أو أبو حامد الغرناطي (من عرب اليمن)، وقد ركب البحر المحيط مع مجموعة من رفاقه وبعد غيابِ أيام عادوا محملين بالغنائم وعادوا عام 889م، وقَصّوا الكثير من مشاهداتهم عن الرحلة وقالوا: إنهم رأوا أناساً في الأراضي التي وصلوها، والظاهر أن خشخاش وصل إلى أرض وراء المحيط، ولكن لا توجد معلومات كافية عن ذلك في المصادر.
كما ذكر المؤرخ المسلم أبو بكر بن عمر القوطية، أنه أثناء حكم الخليفة الأموي هشام الثاني أبحر رحالة مسلم يدعى أبو فروخ الغرناطي من قادس في (389هـ/ 999م) إلى المحيط الأطلسي ونزل بإحدى جزر كناري الكبرى، وأبحر غرباً حتى وصل جزيرتين هما «كابراريا» و«بلويتانيا» ثم عاد إلى الأندلس في نفس العام بعد أن استمرت رحلته شهوراً.
وبعد ذلك، توالت الرحلات حتى أواخر القرن الرابع عشر الميلادي إلى أن وصلت البحر الكاريبي من خلال رحلتين قام بهما البحارة العربي محمد الجاوي.
إن توسع نشاط البحرية الأندلسية وسيادتها على مناطق واسعة في الطرف الغربي من العالم المتوسطي، بالإضافة إلى تطور الحركة العلمية، ووجود مطامح استكشافية لأهداف حربية ومادية، فقد بلغت البحرية درجة من السطوة والاتساع جعلت ابن خلدون يتحدث عن تفوق العرب البحري على باقي القوى الأخرى «وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم، فكانت لهم المقامات المعلومة في الفتح والغنائم»، وربما كان هدف الرحلة الأندلسية إقامة قواعد بحرية متقدمة في بحر الظلمات لصد غارات النورمانديين الذين أغاروا على السواحل الغربية والجنوبية للأندلس، وأيضاً العمل على اكتشاف قواعد بحرية قريبة من السواحل المغربية ليسهل إخماد أي تمرد فيه والتصدي للخطر الفاطمي، بالإضافة إلى الرغبة في الحصول على الكنوز والأحجار الكريمة لما أُشيع عن غنى البحر المحيط وجُزره، كل هذه العوامل بالإضافة إلى الاستقرار الداخلي في الأندلس منذ عهد الأمير الحكم بن هشام الربضي ( ت 206هـ) ساهمت في تشجيع المغامرات الأندلسية في بحر الظلمات.
تأملات في الرحلات الأندلسية
كشفت الرحلات الأندلسية عن مدى الاستقرار السياسي والعسكري والازدهار الحضاري والفكري من تطور علوم الرياضيات والفلك والملاحة والجغرافيا، فقد كان لدى المغامرين الأوائل في بحر الظلمات معرفة بحركة التيارات المائية واتجاه وسرعة الرياح، واطلاع على ظروف المناخ وطبيعة المحيط وبعض جزره، وقد اعتمد أولئك الرحالة على مُصنفات الإغريق واللاتين كمؤلفات بطليموس التي تعرفوا من خلالها على المسالك البحرية، كما تجاوزت الرحلات ما كان سائداً في الخيال من خلال اكتشاف العالم المجهول الذي تحول إلى واقع معلوم، وأبرزت الرحلات دور بعض العائلات البحرية الأندلسية، وهي عائلات اختصت في عمل البحر، فهذه العائلات لم تكتفِ في حماية الثغور البحرية، وتأمين السواحل والجزر القريبة من الأخطار الخارجية فحسب، وإنما عملت على توسيع قواعد دفاعاتها لأماكن أكثر عمقاً، ومن أبعاد الرحلات أنها كشفت عن شيوع مظاهر الترف والرفاه في فترة الانتصارات العسكرية للأندلس؛ فقد بقيت الرحلات على كل الأحوال طموحاً ذاتياً للبحث عن المجهول.
تَعرَّفنا من خلال الرحلة الأولى على أنواع الأغذية واللباس الذي اهتم به الرحالة الأندلسيون (كالتين البرّي والأغنام والصوف والمزروعات البرية..)، وكما جاءت الرحلة الأولى بوصفٍ للطبيعة والمياه في الجُزر، وكما وصف الرحالة السماتِ الجسدية لسكان الجُزر الخالدات (لهم شعرٌ أشقر وطوال القامات ونساؤهم جميلات).
وتكشف الرحلة الثانية التي قام بها خشخاش دورُ العائلات البحرية في تنشيط هذه المغامرات، فهو ينتمي لعائلةٍ يمنية، وكانت أُسرته من البيوتات البحرية المشهورة في قاعدة المرية على البحر المتوسط، وقد اعتمد الأمراء الأمويون على القبائل اليمنية القضاعية في تعمير المناطق البحرية والمثاغرة فيها، وقد ظهر جَدُّ خشخاش ضمن قادة الأساطيل التي قاتلت النورماندي، وقد كان هؤلاء لهم الدور الكبير في بلوغ العالم الجديد، وبالتالي يمكن أن نستنتج أن الرحالةَ الأندلسيين لم يكونوا قراصنة وانطلقوا من أهداف شخصية ورسمية، إنما كانوا من أبناء العائلات البحرية العريقة التي اعتمد عليهم الحُكام بالأندلس في القتالِ، وخوض البحر كآل الرماحس وآل الأسود وغيرهم.
إن ما نُسجَ عن بحر الظلمات من قصص وأساطير خوَّفتِ الناس منه، هو أمرٌ لم يكن أمراً خاصاً بأهل المغرب والأندلس، فكانت الأسطورة والخوف من خوض البحر واكتشاف المجهول خاصية لدى كل الشُعوب في العصر الوسيط، فالرومان كانوا يخافون البحر ويُفضلون اليابسةَ، وكذلك الهُولنديين الأكثر خبرة في شؤون البحر كانوا يقولون: «البقاءُ على اليابسةِ ولو على متنِ عربةٍ مُتهالكة خيرٌ من السفرِ بالبحر ولو على متن سفينة جديدة».
وبالرغم من كل ذلك، فقد توسعت الرحلة الأندلسية، فمن المؤكد بأن الأندلسيين كان لهم الدور في تسهيل حركة الكشوف التي قام بها الكشافة والملاحيين الأوروبيين لفتح أبواب العالم الجديد وصولاً إلى أمريكا، فقد نشر هذا الرأي عالمُ الأجناسِ الأمريكي جيفريز عام 1955م في بحثه الشهير «عن أصول الشعوب الأمريكية»، وأكد وجود صلات غير منقطعة بين العرب المقيمين على الشواطئ الشرقية للمحيط الأطلسي، والشعوب المقيمة على الشواطئ الغربية للقارة الجديدة قبل مجيء كريستوف كولومبس بأربعةِ قُرون.
إن السَّطوةَ البحرية الإسلامية في الطَّرفِ الغربي من العالم الإسلامي حتى القرن التاسع الميلادي، وتشجيع حكومة قرطبة للرحلة؛ لمطامع وأهداف سياسية واقتصادية توسعية، بالإضافة إلى الازدهار العلمي، والاطلاع على علوم وآداب الشعوب القديمة في البحر والملاحة، كله دفع الأندلسيين للمغامرة في بحر الظلمات والبحث عن أراضٍ جديدة، فأسهمت الرحلة الأندلسية في تجاوز المتخيل في ذهنيات ساكني المغرب والأندلس إلى حد كبير، وكما نجد أن أهل الأندلس هم أول من خاض غمار هذا البحر المحيط (المحيط الأطلسي)، وأسهمت رحلاتهم فيما بعد في تسريعِ الوصول الأوروبي إلى عوالم ومستعمرات في الهند والأمريكيتين في نهاية القرن الخامس عشر الميلادي وبدء مرحلة النهضة والأنوار في الغرب.
خريطة العالم للإدريسي التي رسمها لملك صقلية روجر الثاني عام 1154م (تبدو الخريطة مقلوبة؛ لأن الناس كانوا يظنون أن الجنوب يقع في الأعلى أثناء العصور الوسطى).
خريطة جغرافية الأندلس (شبه الجزيرة الإيبيرية)
________________________
1- أبو عبيد البكري (ت 487هـ)، المسالك والممالك، (بيروت: دار الغرب الإسلامي، 1992م).
2-ـ ابن خلدون (ت 808هـ)، المقدمة، عبدالله محمد الدرويش، (دمشق: دار يعرب، ط1، 2004).
3- الإدريسي (ت 560هـ)، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق، (بيروت: عالم الكتب، ط1، 1409هـ).
4- محمد طاهر المنصوري، «الأسطول في الحضارة الإسلامية» (الدوحة: معهد الدوحة للدراسات العليا، 17 أبريل 2016م).
5- عبدالعزيز سالم، وأحمد مختار العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، (بيروت: دار النهضة العربية، 1969م).
6-Wikimedia Commons, Al-Idrisi’s world map, 23August 2006.