أتى الإسلام برسالة سماوية اجتماعية نظمت العلاقات الإنسانية على أساس من المودة والرحمة والتعاون والتكافل والتواصل بين أفراد المجتمع من أقارب وجيران وأخوة الدين والأرض واللغة، ثم أخوة الإنسانية، وجعلها واجباً على كل إنسان أن يحسن لأخيه كل حسب درجته من القرب، فيقول تعالى: (وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا) (النساء: 36)، فجعل الله تعالى بر الوالدين على رأس كافة أعمال البر ووجوب الإحسان بعد قضية التوحيد التي أرسل من أجلها الأنبياء جميعاً، وجعلها الشرع من القضايا المحورية حتى لو كان الوالدان كافرين، فلا شيء يبيح عقوقهما أو يبرر الإساءة إليهما، وتتعدد الآيات القرآنية والأحاديث النبوية فيما يخص برهما بحسم وأوامر لا تهاون بها.
البر في القرآن الكريم
يقول الله تعالى: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء: 23)، فحرم الله سبحانه كلمة «أف»، وهي أبسط فعل يمكن أن يقوم به إنسان، وربما لا يلحظه الوالدان إذا قاله أمامهما تعبيراً عن الضجر من طلب منهما أو فعل، ومع هذا فقد حرمه الله تعالى، وبذلك فكل ما هو أكبر يدخل في مجال العقوق المحرّم والمهلك بارتكاب الكبائر، ولأن طبيعة الأبناء نسيان فضل الآباء فيعددها الله عز وجل مذكراً إياهم بها، فالأم قد حملت ووضعت وأرضعت وسهرت وأطعمت في آلام تتلوها آلام، أخذت منها صحتها دون أن تشكو أو تضجر أو تتمنى لهم إلا السلامة والنجاة والسعادة في الدارين، ودون أن تنتظر مقابلاً أو كلمة شكر من أحدهم، فيقول عز وجل: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) (الأحقاف: 15).
وقرن شكره سبحانه بشكر الإنسان لوالديه لعظم المسألة عند الله تعالى فقال: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ) (لقمان: 14)؛ وكلمة «وهناً على وهن» تركها القرآن دون ذكر ماهية هذا الوهن ووصفه لأنه في الحقيقة لا وصف له من شدته وأثره السلبي على صحة الأم وربما حياتها، فهو «وهن» مضاعف يتزايد كل يوم مع الحمل، ولا ينتهي بالولادة.
وبر الوالدين لا يقتصر على الأبوين المسلمَيْن، فالمسلم مأمور بالبر بوالديه في كل حال حتى لو كانا كافرين، أو أمراه بالكفر؛ عليه أن يصاحبهما بالمعروف، غير أنه لا طاعة لهما في معصية، فيقول سبحانه: (وَإِن جَاهَدَاكَ عَلى أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفاً وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) (لقمان: 15).
البر في السُّنة النبوية
ولأهمية قيمة بر الوالدين في الإسلام، فقد أولى النبي صلى الله عليه وسلم بها اهتماماً خاصاً، وشدد على أهميتها في أكثر من موضع، وجعلها أفضل درجات الإحسان، والعقوق فيها سبباً لغضب الله تعالى ودخول الخلود في النار، وتحدث القرآن عن مظاهر أخلاق الأنبياء؛ فجعل منها البر بالوالدين؛ فيقول تعالى مثنياً على نبي الله عيسى عليه السلام: (وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً) (مريم: 32)، وقال تعالى مثنياً على يحيى: (وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً) (مريم: 14)(1).
وفي الحديث النبوي محذراً من إدراك أحد الوالدين أو كلاهما ولم يدخلاه بالبر الجنة، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «رغم أنفه، ثم رغم أنفه، ثم رغم أنفه»، قيل: من يا رسول الله؟ قال: «من أدرك والديه عند الكبر، أحدهما أو كليهما، ثم لم يدخل الجنة» (أخرجه مسلم).
وجعل الرسول صلى الله عليه وسلم بر الوالدين مقدماً على الجهاد في سبيل الله تعالى، الذي هو ذروة سنام الإسلام، فعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنهما، قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟» قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد» (أخرجه البخاري).
وفي حديث أسماء بنت أبي بكر ما يوجب البر بالوالدين حتى في حالة كفرهما فتقول: قدمت على أمي وهي مشركة في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت: وهي راغبة أفأصل أمي؟ قال: «نعم، صلي أمك» (صحيح البخاري)، وجاء رجل آخر يطلب البيعة لرسول الله صلى الله عليه وسلم على الهجرة وقال: ما جئتك حتى أبكيت والدي، فقال: «ارجع فأضحكهما كما أبكيتهما» (أخرجه أبو داود، والنسائي).
وعن أبي بكر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟» (ثلاثاً)، قلنا: بلي يا رسول الله، قال: «الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، وكان متكئاً فجلس، فقال: «ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور..»، فما زال يكررها حتى قلنا: ليته سكت. (متفق عليه).
بر الوالدين بعد مماتهما
ولا يتوقف بر الوالدين على حال حياتهما، بل يمتد الأمر لبرهما أمواتاً؛ تعظيماً لحقهما على الأبناء، فعن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن من أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه بعد أن يولي» (صحيح مسلم)(2).
وقد سئل النبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله، هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد وفاتهما؟ قال: «الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما من بعدهما، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما، وإكرام صديقهما» (رواه أحمد وأبو داود)، وقال صلى الله عليه وسلم: «إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث..»، وذكر منها: «ولد صالح يدعو له» (رواه مسلم)، ومن مظاهر بر الوالدين كذلك بعد مماتهما الإحسان إلي الإخوة والأخوات إكراماً للأبوين فتتماسك الأسرة الواحدة ومن ثم المجتمع كله.
صور من بر الصحابة بآبائهم
كان مجتمع المدينة في فجر الرسالة من أفضل المجتمعات البشرية على الإطلاق؛ خلقاً وسلوكاً، وكان بر الصحابة بآبائهم أحياء وأمواتاً نسقاً أمثل لمن يريد التأسي، فعن ابن عباس أنه قال لرجل: إني لا أعلمُ عملًا أقرَب إلى الله عز وجل من برِّ الوالدة». (أخرجه البخاري في الأدب المفرد)، وعن ابن عمر أنه قال لرجل: أحَيٌّ والدُاكَ؟ قلت: عندي أُمِّي، قال: لو ألَنْتَ لها الكلامَ، وأطعَمْتَها الطعامَ لتدخُلَنَّ الجنَّة ما اجتنبت الكبائر. (أخرجه البخاري في الأدب المفرد).
وقد رأى الرسول صلى الله عليه وسلم رؤيا أن أحد الصحابة في الجنة بسبب بِرِّه بأُمِّه، فعن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «نمْتُ فرأيتني في الجنة، فسمعتُ صوت قارئ يقرأ، فقلت: من هذا؟ قالوا: هذا حارثة بن النعمان»، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كذلك البِرُّ، كذلك البِرُّ» (أخرجه أحمد).
وعن أبي هريرة، قال: جئتُ فقلت: يا رسولَ الله، إني كنتُ أدعو أُمِّي إلى الإسلام، فتأبى عليَّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره، فادْعُ اللهَ أن يهدي أُمَّ أبي هريرة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أبي هريرة»، فخرجتُ مستبشرًا بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فلما جئت، قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. (أخرجه مسلم).
وعن عطاء بن بريدة، عن أبيه، قال: كنت جالسًا عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ أتته امرأة، فقالت: يا رسول الله، إن أُمِّي كان عليها صوم شهر، أفأصوم عنها؟ قال: «صومي عنها» (أخرجه مسلم).
وعن ابن عباس، قال: إن سعد بن عبادة تُوفِّيت أُمُّه وهو غائب، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، إن أُمِّي تُوفِّيت وأنا غائب عنها، فهل ينفعها شيء إن تصدَّقْتُ به عنها؟ قال: «نعم»، قال: فإني أشهدك أن حائطي المخراف صدقة عليها. (أخرجه البخاري).
ثمرات البر والعقوق
وكما أن لكل عمل صالح ثمرة تعود على المرء في الدنيا والآخرة، وبما أن بر الوالدين من أحب الأعمال إلى الله ورسوله، فقد جعل أثر تلك العبادة جلياً في بركة العمر والرزق ورضا الله ودخول الجنة، وجعل كذلك لعقوق الوالدين أثراً سلبياً على حياة الإنسان يجني ثمارها السيئة في الدنيا قبل الآخرة، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثَلَاثُ دَعَوَاتٍ مُسْتَجَابَاتٌ لَا شَكَّ فِيهِنَّ: دَعْوَةُ المَظْلُومِ، وَدَعْوَةُ المُسَافِرِ، وَدَعْوَةُ الوَالِدِ عَلَى وَلَدِهِ» (رواه أبو داود والترمذي)، ويقول عليه الصلاة والسلام: «لا يدخل الجنة عاقٌّ، ولا منَّانٌ، ولا مُدمن خمر» (المحدث الألباني)، وعَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «اثْنَتَانِ يُعَجِّلُهُمَا اللهُ فِي الدُّنْيَا: الْبَغْيُ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ» (عند الحاكم بسند صحيح).
إن استقامة المجتمعات الإسلامية بالأخلاق الكريمة ونشر الفضائل وحسن المعاملة بين الناس من أهم الأطر التي وضعها الإسلام لأفراده كواجبات لا يصح الدين بغيرها، وإن أولى الناس بحسن الصحبة وحسن الخلق هما الوالدان لفضلهما الذي لا يمكن رده عليهما، وإن كان البر فريضة، فهما أولى الناس به.
__________________
(1) موسوعة الأخلاق، ج2، ص74.
(2) المصدر السابق، بتصرف.