مع ظهور التقنية ودخول العالم في عصر القرية العالمية الصغيرة، برزت تحديات مختلفة وجديدة للشباب، زادت من حاجتهم إلى المحاضن التربوية الفاعلة التي تجيب عن أسئلتهم وتلبي حاجاتهم وتعينهم على التعامل مع ضرورات عصرهم، وتوفر لهم الصحبة الصالحة والبيئة الطيبة.
فمع هذا التواصل العالمي والفضاء المفتوح بين مختلف الشعوب والثقافات، بدأ الشباب العربي والمسلم يبحث عن هويته وماهيته، وظهرت لديه أسئلة وشبهات تحاكم مرجعيته الدينية والثقافية، ومعها كمية من المواد العشوائية التي تدق عن وتر الشهوات وتدعو إلى الإباحية والشذوذ، وإن سلم من هذا وذاك أغرته التكنولوجيا بنوع جذاب من الألعاب والملهيات التي تضيع العمر والزمان في غير فائدة وتصنع أمجاداً وهمية ولذة بلا حقيقة.
هذه التحديات الرئيسة دفعت بعض المربين إلى استشعار الخطر الذي يواجه أبناء الأمة وعماد مستقبلها، فعملوا على تأسيس المحاضن التربوية التي تحصن الشباب من سلبيات هذه العالمية، وتعمل على تزويدهم بالمعارف والمهارات اللازمة للتعامل معها، فهل أدت هذه المحاضن دورها المأمول، أم أنها تحتاج إلى مزيد من التطوير لتكون أكثر إقناعاً ونفعاً؟
إن المتابع لكثير من المحاضن التربوية الموجودة في العالم العربي والإسلامي -كالأسرة والمدرسة وأندية القرآن الكريم والأندية الرياضية والثقافية وغيرها- يجد أنها بعيدة عن تحديات الشباب المعاصرة، وإن التفتت إلى بعضها فعلى سبيل رد الفعل، التي تقدم العلاج العاجل للمشكلة الطارئة، دون عمق يواجه جذور المشكلة، أو استشراف يرصد الخلل القريب قبل وقوعه، وهذا ما يدفعنا للبحث في كيفية تطوير هذه المحاضن لتنتقل من طور التحصين الذي يعتمد على العلاج أو رد الفعل إلى البناء الذي يعتمد على الوقاية أو الفعل نفسه.
أولاً: في الجانب الفكري والمعرفي:
يقول المثل الصيني: «لا تعطني سمكة، ولكن علمني كيف أصطاد»، إن العلاج التفصيلي للأسئلة والشبهات التي تعترض الشباب لا يكفي لصناعة شاب واثق بدينه وثقافته، ففي كل يوم سؤال وفي كل يوم شبهة، ولكن إن اعتمدنا في تعليمنا للشباب على التدريب على المنهج العلمي الذي يؤسس الشاب معرفياً ويدله على كيفية التأكد من معلوماته وأفكاره، وكيفية الجمع بينها، فإننا نبني شاباً ناضجاً يواجه مختلف الشبهات والأسئلة بروح علمية تنشد الحق وترفض الباطل.
وهذا يحتاج في محاضننا التربوية إلى جلسات علمية تعتمد الحوار والإقناع وسماع الآخر، دون التلقين أو التقليد، كما تحتاج إلى مربٍّ صبور طويل نفس يسمع من الشباب قبل أن يخاطبهم، ويستخرج الإجابات من أفكارهم وبحثهم، دون أن يلقيها عليهم في قوالب جامدة وألفاظ صلبة ربما لا تعرفها ثقافتهم المعاصرة.
ثانياً: في المجال الأخلاقي والإيماني:
إن الشباب اليوم يواجه المعاصي في كل مكان بأسهل الأسباب وأرخص الطرق وأسرع الوسائل، وإن المبالغة في التحذير من هذه المعاصي قد يكون له ردود فعل سلبية عند الشباب، فضغط الشهوة من داخل النفس الإنسانية وضغط فساد الواقع من خارجها يجعل الشاب عرضة لكثرة الزلل، وهذا الصديق يوسف عليه السلام وهو من هو في دينه وخلقه يدعو الله بقلب ضارع فيقول: (وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: 33).
وعليه، فإن مواجهة هذا التحدي الإيماني والأخلاقي كما يكون بالتحذير من المعصية، يكون كذلك بالحث على التوبة والاستغفار، ويكون بالتركيز على مفهوم المبادرة إلى الصالحات لمحو السيئات، كما بين الله تعالى ذلك بقوله: (إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ) (هود: 114)، ويكون بتقوية الصلة بالله وحسن الالتجاء إليه، وصحبة الصالحين.
وعلى محاضننا التربوية، وهي تواجه خطر المعصية أن تركز على ضرورة تعليم مكائد الشيطان ومداخله التي توقع الشاب في المعصية باستدراج وأناة، كما بينها علماؤنا في كتبهم، من أمثال الإمام الغزالي في كتاب «الغرور» من «إحياء علوم الدين»، والإمام ابن الجوزي في كتابه «تلبيس إبليس».
ثالثاً: في البناء النفسي:
في عالم تكثر فيه المقارنات وأشكال الهشاشة النفسية لا بد لمحاضننا التربوية من الحديث عن بناء الذوات، ذلك البناء النفسي والاجتماعي الذي يدرك فيه الشاب مسؤوليته الفردية بين يدي الله تعالى: (وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً) (مريم: 95)، وأن له دوراً اجتماعياً سيحاسبه الله تعالى عليه ولا بد له أن يقوم به؛ (وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً) (الأنفال: 25)، وأن عليه أن يحرص على استكمال نقصه العلمي والخلقي بسعيه الذاتي وعمله الدؤوب، حتى وإن غاب المرشد والمربي، فبمثل هذه المفاهيم وغيرها يبني الشاب المسلم نفسه، ولا يخضع لخديعة الانبهار ولا التفوق، ولا يقع فريسة أفكار سلبية أو هشاشة نفسية.
هذه بعض الملاحظات التي يمكن أن تساهم في تطوير محاضننا الشبابية، مما يليق بهذا المقال، هذا ولم نتحدث عن أهمية التجديد والابتكار، وعن ضرورة مراعاة الاختلافات في المراحل العمرية والاهتمامات الشخصية والتنوعات الاجتماعية والفروق الفردية، وعن صناعة المحتوى الجاذب الذي يتسم بالمباشرة والاختصار، وصولاً إلى محاضن تربوية إلكترونية تصل إلى الشباب في أي وقت وفي كل مكان.
إن المحاضن الشبابية اليوم امتداد لعمل النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم بن أبي الأرقم، وواجبنا اليوم أن نجتهد في زيادة فاعليتها ورفع كفاءتها ليكون لها من التأثير ما كان لها.