في أواسط القرن العشرين، تحررت معظم البلدان العربية من الاستعمار، وتمت تصفيته ظاهريًّا، ولم تبق دولة محتلة إلا فلسطين.
ونشأت أنظمة عربية جديدة ناشئة عن الشرعية الثورية التي قاومت المحتل وعملت على إجلائه.
وهذه الأنظمة أزاحت أنظمة ملكية أو مدنية كانت عميلة للاحتلال، أو -في أقل درجاتها- غير قادرة على التخلص منه.
وهذه الأنظمة كانت أنظمة عسكرية وصلت إلى سدة الحكم؛ حيث أصبحت الجيوش هي الحاكمة، وانشغلت بالسياسة أكثر من انشغالها بتأمين الحدود وحماية الشعوب.
وكانت صراعات هذه الأنظمة مع الكيان الصهيوني؛ حيث دخلت معه في حروب استمرت عقودًا، توسع فيها الكيان في أراضينا ودولنا العربية، ولم تعد فلسطين وحدها المحتلة، بل فلسطين كلها وأجزاء شاسعة من بلداننا.
وكانت هناك صراعات داخلية؛ حيث لم تتحمل هذه الأنظمة العسكرية شركاءهم ومعاونيهم في انقلاباتهم العسكرية؛ فراحت تعتقلهم وتنفيهم وتعدمهم، وكل هذا أثر في بنية دول ما بعد الاستعمار، وأضعف لُحمة المجتمع، ومكَّن العدو الخارجي من التلاعب بالأنظمة وإخضاعها وتخويفها من شريحة لا يمكن تجاوزها من شرائح المجتمع.
وهذه الشريحة لم تتخذ الإسلام طقوسًا وشعائر لا روح فيها، بل منهج حياة؛ فهو «دين ودولة، وحكومة وأمة، ومصحف وسيف، وخلافة من الله للمسلمين في أمم الأرض أجمعين»(1).
وعملت الأنظمة على شيطنة تلك الشريحة، وتشويه صورتها في أعين شعوبها، والحيلولة بينها وبين ممارسة حقوقها السياسية، وألجأتها للعمل السري للحفاظ على نفسها، ومقاومة محاولات التخلص منها، والإجهاز عليها.
ولما أرهقت تلك الأنظمةَ صراعاتُها مع الكيان الصهيوني، لا سيما أن جبهتها الداخلية غير مستقرة، وبدلاً من تقوية جبهتها الداخلية وتوحيد صفوفها، رأت أن تدخل في عملية سلام مع الكيان المغتصب.
واستشعرت تلك الأنظمة ثقل القضية الفلسطينية على كواهلهم، فحاولت تصفية القضية بما ظنته هو السبيل.
فتصالحت بعض الأنظمة مع الكيان الصهيوني، ولم تتصالح مع شركاء الوطن وإخوان الدين والدماء.
وتصالح هذه الأنظمة مع الكيان الصهيوني لم يكن سبيلاً لعودة أي جزء من حقوق الشعب الفلسطيني.
وضغطت تلك الأنظمة بما أوتيت من قوة على منظمة التحرير الفلسطينية والزعيم أبي عمَّار للتوقيع على اتفاقية أوسلو والاعتراف بالكيان الصهيوني.
وأي حركة أو منظمة لا تقبل بتلك الرؤية وهذا المسار فإنها بذلك قد وضعت نفسها في مرمى نيران جبهات متعددة؛ جبهة تتكوَّن من الغرب و«إسرائيل» من ناحية، وجبهة تتكوَّن من بعض الأنظمة العربية.
وقد مرت عقود على تلك الاتفاقيات التي لم تجلب السلام للشعب الفلسطيني، بل زاد التوسع والاستيطان والتهويد للقدس، والتضييق على الفلسطينيين، وحرمانهم من أبسط حقوقهم.
ومن البديهي أن يرى الكيان الصهيوني أن مقاومته إرهاب ومحاولة لاجتثاثه من الأرض وإجلائه عنها، فهذا ديدن المحتل في كل العصور والأمصار، ولن تنخرم تلك القاعدة رغم عدالة قضايا التحرر وبدهيتها.
والأنظمة الغربية لن تسمح يومًا بسقوط «إسرائيل»؛ إذ بها تم تفريق العرب وتقسيمهم والتلاعب بهم وابتزازهم.
وجلاؤهم في منتصف القرن الماضي لم يكن جلاء تامًّا؛ إذ عمل الكيان على تأمين مصالحهم في بلاد العرب، وعمل الغرب على تأمين الوجود الصهيوني وحمايته.
لذا، فإن أي مقاومة للكيان يعتبره الغرب كذلك إرهابًا؛ ففرنسا -مثلاً- تصف ما قامت به حركة «حماس» وفصائل المقاومة في 7 أكتوبر بأنها هجمات إرهابية، وعُقد اجتماع بشأن مكافحة حركة «حماس» في باريس حضره عدد كبير من شركائها الدوليين، ويندرج في إطار ما تسميه: مبادرة السلام والأمن للجميع، وفي هذا الاجتماع الذي ترأسه المدير العام للشؤون السياسية والأمنية في وزارة أوروبا والشؤون الخارجية «تناول العمل الفعلي الذي ينبغي الاضطلاع به لمكافحة هذه المجموعة الإرهابية، وكذلك سبل تعاظم التنسيق الدولي في هذا الصدد»(2).
وقال موقع «فوكس نيوز» الأمريكي: إن «هيئة الإذاعة البريطانية» (بي بي سي) أعلنت عن تغيير في سياستها التحريرية، وستصف حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بـ«المنظمة الإرهابية»(3).
وقد أدرج الاتحاد الأوروبي رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» في قطاع غزة يحيى السنوار على قائمة «الإرهاب» على خلفية الهجوم الذي شنَّته الحركة على جنوب «إسرائيل» في السابع من أكتوبر»(4).
وفي بيان لوزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن، في 18 أكتوبر 2023م، قال: لقد شعر العالم بصدمة بفعل الهجمات المروعة التي شنها إرهابيو «حماس»، يوم 7 أكتوبر على «إسرائيل»، وقد أعربت الولايات المتحدة عن دعمنا غير المشروط للشعب «الإسرائيلي» في هذه الفترة المأساوية، نواصل إدانة أعمال الإرهاب هذه التي تسببت بخسارة عدد هائل من الأرواح وتشتت العائلات(5).
وفي الغرب هناك شرائح من الشعوب لا توافق حكوماتها على موقفها، لكنها لا تملك إلا التظاهر، لكن الساسة يسيرون في طريق مرصوفة بجماجم أطفال فلسطين ونسائها.
أما بعض الأنظمة العربية، فانطلاقًا من كرهها للإسلاميين ورؤيتهم وكونهم منافسين لهم يمكن أن يصلوا للحكم في أي وقت، وهذا لن يسمحوا به مهما كلفهم الأمر، إلى جانب أن المقاومة تخالف رؤيتهم للسلام وتطبيعهم مع الكيان الصهيوني فإنها تصم المقاومة بالإرهاب.
وقد ذكر الكاتب الفلسطيني أدهم أبو سلمية أنه قد جمعه لقاء مع شخصية دبلوماسية عريقة، فسأله: لماذا لا نلاحظ تحركًا عربيًّا وإسلاميًّا فاعلاً لوقف المذبحة في غزة يتجاوز بيانات الإدانة والشجب والاستنكار وإرسال المساعدات الإنسانية؟!
فرد عليه: ومن قال لك: إن هذه الدول تختلف في رغباتها عن رغبة نتنياهو في القضاء على المقاومة؟!
وذكر اجتماعات شارك هو شخصيًّا في بعضها خلال السنوات الخمس عشرة الماضية كان عنوانها الرئيس «الخلاص من المقاومة في غزة»، وأن دولاً عربية مع الاحتلال الصهيوني والولايات المتحدة كانت تقود هذا الحراك، وأن غرفة مشتركة كانت تُدير الحصار على غزة».
فهنا التماهي التام بين الموقف الغربي وبعض الأنظمة العربية تجاه المقاومة التي تجسدها «حماس» والفصائل الفلسطينية، وتصفها بالإرهاب، ضاربة الصفح عن أمنها القومي، ومتنكرة للنخوة العربية، وضاربة الصفح عن الأخوة الإسلامية.
وبعض التصريحات الإيجابية في العلن لا تغير من الأمر شيئًا، إذ إن تصريحات العلن شيء وما يدور في الغرف المغلقة شيء آخر، ليس في صالح المقاومة أو حقوق الشعب الفلسطيني.
________________________________________________________
(¹) مجموعة رسائل الإمام البنا بتحقيقي، ص 445.