شرع رسول الله ﷺ منذ دخوله المدينة المنورة لتثبيت دعائم الدَّولة الجديدة، على قواعد متينةٍ، وأسسٍ راسخةٍ، فكانت أولى خطواته المباركة الاهتمام ببناء دعائم الأمَّة؛ فكان من أول ما قام به ﷺ بناء المسجد الأعظم بالمدينة، وذلك لتظهر فيه شعائر الإسلام، الَّتي طالما حُوربت، ولتقام فيه الصَّلوات؛ الَّتي تربط المرء بربِّ العالمين، وتنقِّي القلب من أدران الأرض، وأدناس الحياة الدُّنيا.
روى الإمام البخاريُّ في سنده: أنَّ رسول الله ﷺ دخل المدينة راكباً راحلتَهُ، فسار يمشي معه النَّاسُ؛ حتَّى بَرَكَتْ عند مسجد رسول الله ﷺ بالمدينة، وهو يصلِّي فيه يومئذٍ رجالٌ من المسلمين، وكان مِرْبَداً للتَّمر، لسهلٍ وسُهَيْلٍ غلامين يتيمين في حِجْر أسعد بن زُرَارَة، فقال رسول الله ﷺ حين بركت به راحلته: «هذا إن شاء الله المنزل»، ثمَّ دعا رسولُ الله ﷺ الغلامين، فساومهما بالمِرْبَد ليتَّخذَه مسجداً، فقالا: لا، بل نهبُهُ لك يا رسولَ الله! فأبى رسول الله ﷺ أن يقبله منهما هِبَةً؛ حتَّى ابتاعه منهما. (رواه البخاري، 3906).
ولهذا الأمر دلالات جليلة واضحة، وهي أهمية المسجد في الإسلام، فهو دعامة المجتمع الإسلامي الأولى في كل مكان وزمان، فأينما كانت المآذن والقباب فهي معالم وجود الإسلام كدين والمسلمين كمجتمع يدين بالدين الحق والعقيدة الصحيحة، ويقيم شعائر الله تعالى، فضلاً عن دور المسجد التربوي والتعليمي، الذي بدأ منذ العهد النبوي واستمر في الظهور والتطور عبر مختلف عصور التاريخ الإسلامي.
إنَّ إقامة المساجد من أهمِّ الرَّكائز في بناء المجتمع الإسلاميِّ؛ ذلك أنَّ المجتمع المسلم إنَّما يكتسب صفة الرُّسوخ والتَّماسك بالتزام نظام الإسلام، وعقيدته وآدابه، وإنَّما ينبع ذلك من رُوح المسجد ووحيه، قال تعالى: ﴿فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ {36} رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ {37} لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ (النور)، وقال تعالى: ﴿لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ ﴾ (التوبة: 108).
وإن المسجد هو رمزٌ لشموليَّة الإسلام، حيث أُنشئ ليكون متعبَّداً لصلاة المؤمنين، وذكرهم لله تعالى، وتسبيحهم له، وتقديسهم إيَّاه بحمده، وشكره على نعمه عليهم، يدخله كلُّ مسلمٍ، ويقيم فيه صلاته وعبادته، ولا يضارُّه أحدٌ ما دام حافظاً لقداسته، ومؤدِّياً حقَّ حرمته. كما أنشئ المسجد ليكون ملتقى رسول الله ﷺ بأصحابه، والوافدين عليه؛ طلباً للهداية، ورغبةً في الإيمان بدعوته وتصديق رسالته.
وإن المسجد هو جامعةٌ للعلوم، والمعارف الكونيَّة والعقليَّة والتَّنزليَّة الَّتي حثَّ القرآن الكريم على النَّظر فيها، وليكون مدرسةً يتدارس فيها المؤمنون أفكارهم، وثمرات عقولهم، ومعهداً يَؤُمُّهُ طلاب العلم من كلِّ صوبٍ؛ ليتفقهوا في الدِّين، ويرجعوا إلى قومهم مبشِّرين ومنذرين، داعين إلى الله هادين، يتوارثونها جيلاً بعد جيلٍ.
ولقد أُنشئ المسجد ليجد فيه الغريب مأوىً، وابن السَّبيل مستقراً، لا تكدِّره منَّةُ أحدٍ عليه، فينهل من رِفْدِه، ويعبُّ من هدايته ما أطاق استعداده النَّفسيُّ، والعقليُّ، لا يصدُّه أحدٌ عن علمٍ، أو معرفةٍ، أو لونٍ من ألوان الهداية، فكم من قائد تخرَّج فيه، وبرزت بطولتُه بين جدرانه! وكم من عالمٍ استبحر علمُه في رحابه، ثمَّ خرج به على النَّاس يروي ظمأهم للمعرفة! وكم من داعٍ إلى الله تلقَّى في ساحاته دروس الدَّعوة إلى الله، فكان أسوة الدُّعاة، وقدوة الهداة، وريحانةً جَذَبَ القلوبَ شَذَاها، فانجفلت إليها تأخذ عنها الهداية؛ لتستضيء بأنوارها!
وأُنشئ المسجد ليكون قلعـةً لاجتماع المجاهدين ورجال الحق إذا استُنفروا، تعقد فيـه ألويـة الجهاد، والدَّعوة إلى الله، وتخفق فيـه فوق رؤوس القادة الرّايات، للتوجُّـه إلى مواقع الأحداث، وفي ظلِّها يقف جند الله في نشوة ترقُّب النَّصر أو الشَّهادة. ويجد المجتمع المسلم الجديد في المسجد ركناً في زواياه، ليكون مشفىً يُستشفى فيه جرحى كتائب الجهاد؛ ليتمكن نبيُّ الله ﷺ من عيادتهم، والنَّظر في أحوالهم، والاستطباب لهم، ومداواتهم في غير مشقَّةٍ، ولا نَصَبٍ؛ تقديراً لفضلهم.
وإن المسجد مركزٌ لبريد الإسلام؛ منه تصدر الأخبار، ويُبْرَدُ البريد، وتصدر الرَّسائـل، وفيه تُتلقَّى الأنبـاء السِّياسيَّـة سلماً أو حربـاً، وفيه تُتلقى وتُقرأ رسائل البشائر بالنَّصر، ورسائل طلب المـدد، وفيـه يُنعى المستشهدون في معارك الجهاد؛ ليتأسَّى بهم المتأسُّون، وليتنافس في الاقتداء بهم المتنافسون.
هذه وظائف المسجد التي ظهرت في فجر الإسلام، وأوائل الدعوة الإسلامية، وخلال حياة النبي ﷺ، والتي استمرت خلال التاريخ الإسلامي حتى الوقت الحاضر، وهي الوظائف المحورية التي يقوم بها المجتمع المسلم ويحيا بها، وتشمل مصالح الدنيا والآخرة في حياة المسلمين، فكان المسجد دائماً دار العبادة والعلم والقيادة والقضاء ومأوى عابري السبيل، ولم يكن مجرد دار للعبادة وإقامة الشعائر والطقوس الدينية كما هي حال أغلب المساجد في أيامنا هذه.
وهكذا كانت المساجد الكبرى في تاريخ الإسلام مقصد عبادة وعلم وإصلاح، وكان طلبة العلم يُقْبِلُون على الجوامع من كل صوب، حيث هُيِّئَتْ لهم جميع الوسائل لأَجْلِ مواصلة دراستهم والتفرُّغ لها، فكانت تُجْرَى عليهم الأرزاق، وتُبْنَى لهم المساكن، وتُنْفَقُ عليهم الأموال، وقد كانت هذه الجوامع بمثابة جامعات عالمية في وقتنا الحاضر.
وبالانتقال من زمن النبوة، والدول الإسلامية المتعاقبة إلى الفترة الحديثة، نجد الكثير من النماذج التي أدى فيها المسجد دوراً في الإعداد العقائدي والأخلاقي والتربوي والتعليمي للمسلمين، فكان له دور حاسم في إيقاظ الشعوب النائمة، وفي زرع الصحوة الإسلامية، وإطلاق روح الجهاد والمقاومة ضد الاحتلال والطغيان، ولعل من أبرز هذه النماذج هو دور المسجد خلال مسيرة كفاح الشعب الجزائري، فكان المسجد ملاذ المؤمنين الراغبين في الحفاظ على دينهم الإسلامي وهويتهم ولغتهم العربية، والرافضين لسياسات «الفرنسة» التي كانت تفرضها سلطات الاستعمار الفرنسي على كافة جوانب الحياة الاجتماعية والثقافية، وحيث كانت المدارس النظامية والحديثة أبرز وسائل المستعمرين في تنصير الجزائر، وهم الذين يعتبرون أنفسهم حماة الكنيسة الكاثوليكية، وعمل الفرنسيون على هدم وتخريب عدد كبير من المساجد الجزائرية، وتحويل بعض المساجد إلى كنائس وإسطبلات ومراكز إدارية، وحين انتصر الشعب الجزائري في ثورته وأخرج المحتلين، أعاد الأمور إلى ما كانت عليه، وغدا المسجد رمز انتصار وعزة للأحرار، وإن الله إذا أراد الله أمراً هيأ له أسبابه، وباتت الأجيال تتخرج جيلاً بعد جيل من هذا الصرح العظيم.
وكان الإمام عبدالحميد بن باديس من أهم من اعتمدوا على التعليم المسجدي في إحياء النهضة الإسلامية، والحركة الإصلاحية في الجزائر، فقد كان الشيخ ابن باديس يرى أن المسجد والتعليم صنوان في الإسلام من يوم ظهور الإسلام، وأن المنهج التربوي المعتمد في هذه المؤسسة التربوية الدينية (المسجد) هو القرآن الكريم الكتاب الجامع والشامل لكل ما يهم الإنسان ويصلح أحوال البشر، فهو كتاب الأكوان والعمران والعلوم كلها، وهو كتاب السعادتين الدنيوية والأخروية، وكذلك المسجد فهو الدار التي يتلقى فيها المسلم تلك العلوم، وبالفعل فقد أطلق ابن باديس من المساجد حركته الإصلاحية والنهضوية، وذلك من «الجامع الأخضر» الذي استقر به وجعله مركزاً لدعوته ودروسه، فتحول هذا الجامع في سنوات قليلة إلى مؤسسة تربوية ومعهد تعليمي خرّج الآلاف من أبناء الجزائر بعد أن أَحيا فيهم تعاليم الإسلام وروح العربية، وربطهم معنوياً وثقافياً ولغوياً بإخوانهم في المشرق الإسلامي.
وكان آخر ما حضرنا رفقة مجموعة من العلماء والمشايخ الأجلاء من العالم الإسلامي منذ أيام قليلة، مراسم افتتاح «جامع الجزائر الكبير: المسجد الأعظم»، الذي يعتبر من ثالث أكبر مساجد العالم حجماً، وقد صَرّحتُ خلال حضوري، بأن جامع الجزائر الكبير هو صرحٌ مُلهم لجميع الشّعوب التي تناضل من أجل حرّيتها، وتدافع عن عقيدتها ومبادئها وقيمها وثقافتها، وهويتها الحضارية والإنسانية.
ونأمل من الله تعالى أن يُؤدي هذا المسجد الجديد، والصرح الإسلامي المبارك دوره الإسلامي والحضاري والإنساني المنتظر في إعلاء كلمة الله تعالى، وإقامة شعائر الإسلام، وترسيخ العقيدة، والقيم والأخلاق الإسلامية في نفوس إخوتنا الجزائريين وعموم المسلمين، وأبناء الإنسانية جميعهم، ونسأل الله تعالى أن يجعله منارة للدعوة إلى الإسلام، والتعريف بهذا الدين العظيم، وأن يكون المدرسة التربوية الجديدة التي ترث الدور الحضاري للجامع الأخضر في الجزائر، والجامع الأزهر في مصر، والجامع الأموي في دمشق، وجامع قرطبة في الأندلس، وجامع الزيتونة في تونس، والقرويين في المغرب.