منذ أكثر من 75 عاماً، اغتصب اليهود درة البلاد الإسلامية وجوهرة أقطارها في لحظة ضعف إسلامية، وغفلة عربية، وجهل بخطورة ما يكيده الأعداء المتربصون لهم، وقد حاول المحتل الغاشم أن يفرض نفسه على المجتمع العربي بكل حيلة ووسيلة، وأن يجعل وجوده بينهم أمرًا طبيعيًا مقبولًا لا سيما بعدما سالمه كثير من أقطار الأمة، حتى كانت عملية «طوفان الأقصى» التي بددت أحلامهم، وهددت وجودهم، وأحيت في المسلمين آمال الانتصار، واقتلاع جذور الاحتلال والاستعمار.
وهذه محاولة مختصرة في رسم بعض الخطى التي ينبغي للمسلمين أن يسلكوها على طريق التحرير:
الأولى: الاستغناء عن الغرب:
أخطأت أمة الإسلام يوم أن اعتمدت على المنظمات الدولية الغربية في نصرتها وحل قضيتها، فمن المحال أن ينصر الكفر إسلاماً، أو أن يحمي الشرك توحيداً؛ لأن الكفر كله ملة واحدة، ولأن هيئة الأمم ومجلس الأمن وغيرهما من المنظمات الدولية ما أُنشئت إلا لتكون أداة لفرض سيطرة الدول الكبرى على من دونها من الدول.
كما أن القرآن قد أخبرنا بأن الغرب قد حمل على عاتقه مهمة إفساد المسلمين وإضلالهم عن كل ينفعهم، فقال تعالى: (وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ) (آل عمران: 69).
بالإضافة إلى ذلك أن الشعوب الغربية في جملتها شعوب غير عادلة، حتى وإن رفعت شعارات الحرية والعدالة.
يقول عبدالله التل، في كتابه «خطر اليهودية العالمية»: إن شعوب أمريكا قد تكونت من الطلائع الأولى للاستعمار والاغتصاب في العالم، وعاشت حياتها كلها تستحل مال سواها، وتغتصب أملاك غيرها من الشعوب الضعيفة، كما أن شعوب أوروبا عاشت وما تزال تعيش على حساب غيرها، وتشارك شعوب أمريكا في تمجيدها للاستعمار، وكلاهما لا يرى أي جرم في أن يحتل اليهود المتمدنون بلاد العرب المتوحشين، ولا غضاضة عندهم في أن يبيد اليهود عرب فلسطين كما أباد الأمريكيون الهنود الحمر سكان أمريكا الأصليين.
فقد آن الأوان أن تنفض الأمة يديها من الغرب، وأن تقطع آمالها فيه، وأن توقن أن من الْتَحف بعباءة الغرب أو تغطّى بثيابهم فهو عريان.
الثانية: إقامة الاتحاد الإسلامي العالمي:
الاتحاد عز وقوة، والتفرق ضعف ومذلة، وقد أمرنا الله تعالى بالاتحاد وحذرنا من الفرقة والشتات، فقال تعالى: (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا) (آل عمران: 103)، كما أنه سبحانه قد قرن التنازع بيننا بالفشل والهوان فقال تعالى: (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
وقد أخفقت الأمة في زماننا في فهم هذه النظريات القرآنية لضعف ثقتها في كلام ربها، لكن الغرب الكافر قد فهمها جيدًا فاتحد فيما بينه، فأزال الفوارق الحدودية، وأقام الأسواق المشتركة، وأنشأ عملة موحدة، وقوة عسكرية موحدة، على الرغم من العداوات الكبيرة والفوارق العقدية والفكرية التي بينهم، في الوقت الذي سعى فيه إلى تفتيت الأمة العربية والإسلامية، وزرع الفتن بين أهلها، واحتلالها ونهب ثرواتها وسلب إرادتها، ولسان حاله «فرّق تسُد»؛ حتى أصبحت الأمة الآن كغثاء من النفايات البشرية، تعيش على ضفاف مجرى الحياة الإنسانية كدويلاتٍ متناثرة ومتحاربة، تفصل بينها حدودٌ جغرافية مصطنعة، ونعرات قومية جاهلية، وترفرف على سمائها رايات القومية والوطنية، وتدور بها الدوامات السياسية فلا تملك الأمة نفسها عن الدوران، بل لا تختار لنفسها حتى المكان الذي تريد أن تدور فيه.
فكانت النتيجة الحتمية لهذه المخططات الغربية أن ذلَّت أمة الإسلام بعد عزة، وجهلت بعد علم، وضعفت بعد قوة، وصارت كقصعة مستباحة لأحقر أمم الأرض، وطمع فيها الذليل قبل العزيز، والقاصي قبل الداني، بل الضعيف قبل القوي، وتجرعت الأمة الآن كؤوس الذل والهوان، حتى صار المسلمون يبادون على أرض غزة، وحولهم مليار ونصف مليار لا يستطيعون أن يمدوهم بالطعام، فضلاً عن أن يمدوهم بالسلاح أو يدافعوا عنهم!
فإذا أرادت أمة الإسلام أن تنهض من جديد، وأن تحرر مقدساتها المغتصبة، فعليها أن تتمسك بشرع ربها وتتحد فيما بينها اتحادًا إسلاميًا عالميًا يجمع ما بين العرب والترك وباكستان والملايو ومسلمي أفريقيا وغيرهم ممن يشعر بانتمائه لهذه الأمة وبولائه لفلسطين و«الأقصى».
الثالثة: رفع راية العقيدة الإسلامية:
«العقيدة» مأخوذة من العقد والحزم، فهي أمر يعتقده الإنسان، ويعقد عليه قلبه وضميره، بحيث يصير عنده حكمًا لا يقبل الشك، بغض النظر عن كونه حقًا أو باطلًا.
فإذا كان اليهود قد اغتصبوا أرض فلسطين بعقيدة عندهم، فلا بد أن تواجَه هذه العقيدة الباطلة المحرّفة بعقيدة إسلامية صحيحة راسخة، وأن يغرس في فكر الشباب المسلم الولاء لأرض فلسطين، وأن تُجَيّش الجيوش المقاوِمة تحت راية العقيدة الإسلامية، تلك العقيدة التي جاهد تحت لوائها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والتابعون ومن سار على نهجهم عبر التاريخ، ولتنكس الأمة رايات الضرار، رايات الحزبية والقومية المقيتة التي ما جنت من ورائها إلا الهزيمة والبوار.
لقد شهد التاريخ أن أمة الإسلام ما فتحت الفتوحات، وما مصَّرت الأمصار إلا يوم أن تمسكت بهذا الدين واعتزت به، قالها الفاروق عمر رضي الله عنه: «إنا كنا أذل قوم فأعزنا الله بالإسلام فمهما ابتغينا العز في غيره أذلنا الله»، فلا عز لنا ولا غلبة ولا هيبة إلا بما اعتز به أسلافنا الصالحون.
فهذا ربعي بن عامر أحد أفراد جند المسلمين يقف أمام رستم قائد جيوش الفرس معلنًا عن هويته وغايته بكل عزة وثبات بعدما سأله رستم: من أنتم؟ فأجاب قائلًا: «لقد ابتعثنا اللهُ لنخرج العباد من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام، ومن ضيق الدنيا إلى سعة الدنيا والآخرة، فمن قَبِلَ ذلك منا قبلنا منه، وإن لم يقبل قبلنا منه الجزية، وإن رفض قاتلناه حتى نفضي إلى موعود الله»، قال رستم: وما موعود الله؟ قال ربعي: «الجنة لمن مات على قتال من أبى، والظفر لمن بقي»، فأي حديث عن تحرير فلسطين بعيدًا عن العقيدة الإسلامية فهو وهْم وسراب، فلن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
الرابعة: إعادة أسلمة القضية الفلسطينية:
لقد استطاعت أبواق الإعلام الصهيوني من خلال خطة محبوكة أن تنقل القضية الفلسطينية من كونها قضية إسلامية تخص كل المسلمين في أنحاء العالم إلى قضية عربية، ثم إلى قومية تخص أهل فلسطين فحسب، وهذا ما أكدته أحداث غزة الجارية، إذ وقف العالم العربي والإسلامي إزاء هذه الإبادة الجماعية وسياسة التجويع لأكثر من مليوني مسلم موقف المتفرج الذي لا شأن له من قريب أو بعيد.
لذا، فإن الواجب على كل مسلم أن يشعر بانتمائه وولائه لفلسطين، لكونها أرضاً عربية إسلامية خالصة والتاريخ شاهد على أصالة عروبتها.
يقول د. محمد عمارة، في «فقه الصراع حول القدس»: فقد سكنها اليبوسيون العرب وبنوا مدينة القدس في الألف الرابع قبل الميلاد؛ أي أن عُمْر عروبة فلسطين الآن أكثر من 6 آلاف سنة، في حين أن نتنياهو منذ سنوات قليلة كان يحتفل بمرور 3000 سنة على يهودية القدس بالوعد الإلهي لإبراهيم، والحق أنها عربية قبل ميلاد الخليل إبراهيم بـ21 قرناً، وهي أرض مباركة قبل قدوم إبراهيم إليها، قال تعالى: (وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ) (الأنبياء: 71)، وهي أرض عربية قبل ميلاد موسى أيضاً بـ27 قرناً. ا هـ.
وكم حاولت المدارس الأثرية التوراتية أن تجد أثراً واحداً يعود إلى زمن داود، وسليمان ليدللوا به على يهودية القدس فما وجدوا، مما يثبت كذب توراتهم وبطلان مزاعمهم حول مملكة داود، و«هيكل» سليمان.
كما أنها أرض إسلامية ارتوى ترابها بدماء الأبطال والمجاهدين، وهي موقوفة على المسلمين منذ أن فتحوها بقيادة أبي عبيدة عامر بن الجراح، وتسلم مفاتيحها الفاروق عمر بن الخطاب، لقد عاشت فلسطين تحت مظلة المسلمين قرونًا عديدة، فلما جاء الصليبيون واحتلوا أرضها، سخَّر الله لها الناصر صلاح الدين فحررها منهم، واستمرت تحت رعاية المسلمين 6 قرون متوالية، حتى كانت النكبة الأخيرة التي سقطت فيها فلسطين بأيدي الصهاينة الغاصبين منذ أكثر من 7 عقود، وقد آن الأوان للأمة الإسلامية أن تحررها من جديد.
الخامسة: تقوية الروابط الروحية بـ«الأقصى» وفلسطين:
يربط المسلمين بالقدس وفلسطين رباط روحي متين مستمد من قول الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء: 1)، فالمسجد الأقصى يمثل معنى عميقًا في حسّ كل مسلم، فهو قبلتهم الأولى، وثاني بيت بني بعد بيت الله الحرام، وثالث الحرمين شرفًا وفضلًا، وقد حرص النبي صلى الله عليه وسلم على ربط أمته روحياً وعملياً بالمسجد الأقصى، فجعل الصلاة فيه بخمسمائة صلاة فيما دونه، إلا الحرمين الشريفين، ولمزيد من تعميق الصلة الدينية بينه وبين البيت الحرام والمسجد النبوي جعله مما تشد إليه الرحال فقال: «وَلا تُشَدُّ الرِّحَالُ إِلَّا إِلَى ثَلاثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِ الحَرَامِ، وَمَسْجِدِي، وَمَسْجِدِ الأَقْصَى».
ومما يدل على محمدية المسجد الأقصى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى فيه إمامًا بجميع الأنبياء وعلى رأسهم أولو العزم الكرام: نوح، وإبراهيم، وموسى، وعيسى، عليهم السلام، ولا شك أن في اقتداء الأنبياء برسولنا في المسجد الأقصى شهادة من هؤلاء الأنبياء الكرام بأنه خاتم الأنبياء، وأن شريعته خاتمة الشرائع الناسخة لما قبلها، وأنه وأمته ورثة النبوات، وأن ولاية الأرض المباركة والمسجد الأقصى قد آلت إلى محمد صلى الله عليه وسلم وأمته.
فالمسلمون في زماننا بحاجة إلى من يوقظ فيهم هذه المعاني الروحية التي تربطهم بـ«الأقصى» وفلسطين، حتى يستشعروا عظمة ما سلب منهم باحتلال اليهود لأرض فلسطين والقدس الشريف.
السادسة: تفعيل سلاح القوة المادية العربية:
القوى المادية في الوطن العربي والأمة الإسلامية مثل النفط، والمواقع الجغرافية، والممرات الملاحية، والمناجم المعدنية، والأسواق التجارية، وصرف العملات الأجنبية وغيرها، أسلحة خطيرة لو أنها قرنت مع قوة الاتحاد الإسلامي وسلاح الهوية العقدية، ثم أحسنت الأمة استخدام هذه الأسلحة مع أعدائها لتغيرت المعادلة، ولركع الشرق والغرب تحت أقدام أمتنا.
وقد سجل التاريخ ما فعله سلاح النفط فقط في حرب العاشر من رمضان، وكيف أثر على نتائج المعركة ضد اليهود، فكيف لو أسقطت الأمة التعامل بالدولار في تصدير منتجاتها؟ وكيف لو استغلت منافذها البحرية كورقة ضغط ضد من يعتدي على أي بقعة فيها؟ وكيف لو قاطعت -بجد وحزم- منتجات كل من يتجاوز حدوده مع كياناتها؟ فالسلاح المادي في الأمة الإسلامية سلاح نافذ، لأنها تتميز بالكثافة العددية، والقوة الشرائية التي يسيل لأجلها لعاب الدول الكبرى المصنعة والمصدرة.
لقد كشفت أحداث غزة الجارية أعداء الأمة على حقيقتهم، وأصبح لزامًا على كل فرد في أمتنا أن يستعمل السلاح المادي والسلاح العقدي وقوة السلاح الاتحادي العالمي كخطوة على طريق التحرر من أسر الصهاينة، وأن يثأر منهم بوعيه وثقافته واستغنائه عنهم وعن أفكارهم ومنتجاتهم التي يتربحون من ورائها المليارات.