ليس الرباط في سبيل الله مقصورًا على الحماية في المعارك، بل إن كل مجال يمكن للعدو أن يهاجم المسلمين من خلاله يعد مجالاً للرباط في سبيل الله، وينال المدافع عنه والقائم على حفظه أجر المرابطين في سبيل الله، بشرط أن يخلص النية فيه لله تعالى، وأن يكون عمله صواباً لا انحراف فيه.
ومن الجوانب المعاصرة للرباط في سبيل الله في المجالات الآتية(1):
1- المجال الجغرافي:
ويقصد به الحدود البرية والبحرية والجوية للوطن، فالمرابط في هذا المجال لا يقف دوره عند حمل السلاح والوقوف به على الحدود، وإنما يبحث عن أفضل الأسلحة المعاصرة التي يرصد من خلالها مخططات الأعداء أو هجماتهم، سواء كان ذلك في البر أو البحر أو الجو، ويدخل في هذا الرباط ما تقوم به أجهزة الرصد والمناورات العسكرية وغيرها مما يستخدمه العسكريون لحماية الوطن.
وقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على تفعيل هذا النوع من الرباط في حماية المدينة المنورة، وكذلك حماية الجيش الإسلامي عند الخروج إلى الغزوات، وحث على ذلك بقوله: «عينان لا تمسُّهما النارُ، عينٌ بكتْ من خشيةِ الله، وعينٌ باتتْ تحرسُ في سبيلِ الله»(2).
2- المجال الأمني:
ويقصد به تأمين الناس على حياتهم وأعراضهم وأموالهم، فمن قام بهذا الدور فقد حاز أجر المرابط في سبيل الله، حيث إن الإسلام قد شرع حداً من الحدود ودعا إلى إقامته لحماية أمن الناس، وهو حد الحرابة، حيث قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ﴾ (المائدة: 33).
وإن اعتبار العمل في حفظ أمن المسلمين رباطاً في سبيل الله فيه فائدة عظيمة؛ وهي شعور المرابط بتحصيل الأجر والثواب من الله تعالى، بالإضافة إلى تحصيل المال الذي ينفقه على نفسه وأهله من خلال عمله، مما يدفعه إلى الإتقان فيه بما يحقق المنفعة الأمنية للجميع.
3- المجال الفكري:
وهو المتعلق بما يحرص عليه أعداء الإسلام من توهين عقيدة المسلمين وتهديد إيمانهم، وذلك من خلال إثارة الشبهات وغرس بذور الشك والإلحاد بين المسلمين، ولهذا كان من المرابطين من يقوم على تفنيد هذه الشبهات ويقوم ببيان الحق الذي يدفع إلى الإيمان والثبات عليه؛ «فالرباط لا يعني فقط أن ترابط بالخيل للعدو المهاجم هجوماً مادياً، بل المرابطة تعني: الإعداد لكل ما يمكن أن يَرُدَّ عن الحق صيحة الباطل، فمن المرابطة أن تعد الناشئة الإسلامية لوافدات الإلحاد قبل أن تَفِد، بحيث يمتلكون الحصانة الكافية ضدها ويقدرون على مواجهتها»(3).
وهنا يتبين أن حماية أفكار المسلمين لا تقل أهمية عن حماية أراضيهم وأهليهم؛ لأن الفكر هو الذي يحرك السلوك، فإذا فسد الفكر انحرف السلوك، فلا بد أن يجهز المسلمون جيوشاً من العلماء للمرابطة في كل المجالات، من خلال التأسيس للفكر السليم وحمايته من خلال رد الشبهات المثارة حوله.
4- المجال العلمي:
وهو الاهتمام بالبحث العلمي الذي يقوم باكتشاف السنن والقوانين اللازمة لتسيير المادة والاستفادة منها في تحقيق التقدم والارتقاء، وقد أمر الله تعالى بذلك، فقال: ﴿قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا﴾ (آل عمران: 137)، وقال عز وجل: ﴿قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ (الروم: 42).
بل إن دراسة العلوم التي تهتم باكتشاف قوانين المادة وتوظيفها لصالح الإنسان تعد من أقوى مجالات الرباط في هذا العصر، حيث إن مواجهة الأعداء أصبحت اليوم تعتمد على إحراز التقدم في مجال الاكتشافات العلمية وتسخير الموارد الطبيعية أو الصناعية وامتلاك القدرة الصناعية أو الاقتصادية أو التكنولوجية، وكلها تعتمد على استنباط القوانين من البحث العلمي، وهذه هي الصناعة المطلوبة الآن، التي أمر الإسلام بها، ووعد المرابط عليها بالأجر والثواب، ففي الحديث الشريف أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ اللهَ يُدْخِلُ بِالسَّهْمِ الوَاحِدِ ثَلَاثَةَ نَفَرٍ الجَنَّةَ: صَانِعَهُ يَحْتَسِبُ في صَنْعَتِهِ الخَيْرَ، وَالرَّامِي بِهِ، ومُنْبِلَهُ»(4).
ألا يعتبر الباحث في المختبرات كصانع السهام الذي يبحث عن الطرق الفاعلة لتوظيف صنعته في صالح وطنه وأمته؟ ألا يعتبر مرابطاً من يرصد الشبهات المثارة حول الإسلام، ويبحث عن السهام العلمية التي يرد بها كيد الأعداء؟! وهنا يتبين أن كل مجال يقوم فيه المسلم بالإعداد العلمي لتحقيق مصلحة الأمة وحمايتها يعد رباطاً في سبيل الله.
5- المجال الإعلامي:
وهو المجال الذي تقوم فيه وسائل التواصل الإعلامي المتنوعة بالدخول إلى عقول الناس وبيوتهم، والحرص على السيطرة عليها وقيادتها نحو هدفها الذي رسمته لها، وقد أصبح هذا المجال في العصر الحاضر من أخطر مجالات الغزو الفكري التي تحتاج إلى جيش من المرابطين في سبيل الله، للقيام بمهمة مراقبة الوسائل الإعلامية بكافة أشكالها، ورصد محتوياتها ومنع الفاسد منها من الدخول إلى بلادنا.
كما يقومون بإيجاد البدائل النظيفة التي تتناسب مع ديننا وثقافتنا بأحدث الأساليب المشوقة والفاعلة في دنيا الإعلام، ويستنفر لذلك كل أصحاب المهارات الإعلامية من الصحفيين والكُتَّاب والشعراء وغيرهم، ألم يقل الرسول صلى الله عليه وسلم: «اهْجُوا قُرَيْشًا، فَإِنَّهُ أَشَدُّ عَلَيْهَا مِنْ رَشْقٍ بِالنَّبْلِ»(5).
6- المجال الصحي:
وهو المجال الذي يهتم بصحة الإنسان ومداواة العلل والأمراض التي تصيبه، ذلك أن المريض المتألم يكون في حاجة ماسة إلى من يخفف ألمه ويداوي جروحه، ومن هنا كان القائم على رعاية الصحة الإنسانية مرابطاً في سبيل الله، وخاصة في العصر الحاضر، الذي أصبحت كثير من الأمراض والأوبئة تُصنَّع جراثيمها في المعامل والمختبرات، وأصبحت وسيلة هجومية على الأعداء، بل أصبح بإمكان العدو أن يفسد الهواء بالغازات السامة والقاتلة، ولهذا أصبحت الحاجة ماسة إلى مرابطة جيش من الأطباء والممرضين لتوعية الناس بالعادات الصحية السليمة، ومداوة العلل والأمراض القائمة، والحماية من خطر كل ما هو جديد في عالم صناعة الأوبئة.
7- المجال الإستراتيجي:
وهو المجال الذي يعتمد على التفكير والتخطيط المستقبلي، الذي يرصد تحركات العدو على كافة الأصعدة، ويضع الرؤى ويرسم التصورات ويحدد الخطوات اللازمة للمواجهة في كل المجالات، وقد أشار القرآن الكريم إلى هذا المجال في قول الله تعالى: ﴿وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ﴾ (الأنفال: 30)، كما استخدم الرسول صلى الله عليه وسلم التخطيط الإستراتيجي في هجرته من مكة إلى المدينة، وفي كل غزواته التي خاضها في سبيل الله، حتى استطاع أن يؤسس للحضارة الإسلامية العظيمة.
وإن التخطيط الإستراتيجي المعاصر يحتاج من الأمة الإسلامية أن تحشد جيوشاً من العلماء والمفكرين في شتى المجالات، وتوفر لهم كل ما يحتاجون إليه من إمكانات وأدوات تساعدهم على رصد الواقع والتطلع إلى المستقبل من أجل بناء التصورات النافعة والفاعلة في هذا المجال.
إن الثغور التي تحتاج إلى المرابطين في العصر الحاضر كثيرة ومتنوعة، فكل ما من شأنه أن يشكّل خطراً على المسلمين في دينهم أو دنياهم يعتبر ثغراً يحتاج إلى الحماية والمرابطة فيه، فليشمر كل صاحب تخصص عن ساعد الجد، وليدرك أجر المرابطة وثوابها من خلال سد الثغرة التي يجيدها.
_______________________
(1) الرباط في سبيل الله: د. محمد جميل المصطفى، ص 21.
(2) صحيح الترغيب والترهيب: للألباني (1229).
(3) تفسير الشعراوي (4/ 1976).
(4) أخرجه أحمد (17335)، وأبو داود (2513).
(5) صحيح مسلم (2490).