إن من سنن الله تعالى في خلقه أنه جعل الأيام دولاً بين الناس، فهي لا تدوم على حال واحدة لإنسان أو لقوم أو لدولة، قال تعالى: ﴿وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ ۗ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾ (آل عمران: 140)، وأن صعود وأفول الأمم والدول خاضعٌ أيضاً لسنن إلهية ثابتة بشقيها الشرعي والكوني، يعلو من التزم بها وسار عليها، ويضعف ويسقط من أهملها وانحرف عنها.
ولم تكن الدولة العثمانية بدعاً من الدول، وهي دولة أعز بها الله الإسلام والمسلمين، وشهد المسلمون تحت رايتها الانتصارات والفتوحات العظيمة، وعاشوا تحت سلطانها في أمان وقوة ومنعة، وحتى رعاياها من غير المسلمين فقد عاشوا في ظل الأمن والعدالة والحرية الدينية التي ضمنها الحكم العثماني لهم بمختلف عصوره.
ولكنها كغيرها من الدول، حيث سطع نجمها وتوسعت وقهرت الأعداء وقمعت المتمردين العصاة لما التزمت بسنن الله تعالى في النصر والتمكين وأخذت بأسباب القوة والرفعة، ولما بدأت تترك ما كانت عليه بدأ نجمها بالأفول شيئاً فشيئاً، وضعفت أمام أعداء الخارج والداخل، فتقهقرت حتى خسرت معظم أراضيها، وأجبرت على كثير من التنازلات حتى أصبحت الدول النصرانية شريكة للسلطان في إدارة أمور دولته وولاياته.
ابتعاد أواخر سلاطين الدَّولة العثمانيَّة عن شرع الله وآثاره على الأمَّة الإِسلاميَّة:
تجد الإِنسان المنغمس في حياة المادَّة، والجاهليَّة مصاباً بالقلق، والحيرة، والخوف، والجبن، يحسب كلَّ صيحةٍ عليه، يخشى من النَّصارى، ولا يستطيع أن يقف أمامهم وقفة عزٍّ وشموخٍ واستعلاءٍ، وإِذا تشجَّع في معركة من المعارك؛ ضعف قلبه أمام الأعداء من أثر المعاصي في قلبه، وأصبح في ضنكٍ من العيش: ﴿وَمَنۡ أَعۡرَضَ عَن ذِكۡرِي فَإِنَّ لَهُۥ مَعِيشَة ضَنكا﴾ (طه: 124)، وقد أصيبت الشُّعوب الإِسلاميَّة في مراحل الدَّولة العثمانيَّة الأخيرة بالتَّبلُّد، وفقد الإِحساس بالذَّات، وضعف ضميرها الرُّوحي، فلا أمرٌ بمعروفٍ، ولا نهيٌ عن منكرٍ، وأصابهم ما أصاب بني إِسرائيل عندما تركوا الأمر بالمعروف، والنَّهي عن المنكر، قال تعالى: ﴿لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ {78} كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ﴾ (المائدة).
فإِنَّ أيَّ أمَّةٍ لا تعظِّم شرع الله أمراً ونهياً تسقط كما سقط بنو إِسرائيل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كلا والله لَتَأْمُرُنَّ بالمعروف ولتَنْهَوُنَّ عن المنكر، ولتأخُذُنَّ على يد الظَّالم، ولتأطرُنَّه على الحقِّ أطراً، ولتقصُرُنَّهُ على الحقِّ قصراً، أو ليضربَنَّ الله بقلوب بعضكم بعضاً، ثمَّ لَيَلْعَنَنَّكم كما لعنهم!».
انحراف الأمة عن المفاهيم الصحيحة للدين الإسلامي:
الانحراف في مفهوم الولاء والبراء: فقد كانت الدَّولة العثمانية في عصورها المتقدِّمة عاملة بقول الله تعالى، موالية لمن والى الله تعالى ومعادية لمن عاداه وعادى شريعته، أمَّا في عصورها المتأخِّرة وخصوصاً في القرنين الثَّالث عشر والرَّابع عشر الهجريِّين؛ فقد أصيب مفهوم الولاء والبراء بالانحراف نتيجةً للجهل الذَّريع؛ الَّذي خيَّم على أغلب أقاليم الدَّولة العثمانيَّة، والبلدان الإِسلاميَّة، ولغياب العلماء الرَّبَّانيِّين الَّذين ينيرون للأمَّة دروبها، وكان الحكَّام، والسَّلاطين يصانعون الأعداء من الكافرين، ويتولَّونهم من دون المؤمنين؛ حيث كان هؤلاء الكافرون على جانبٍ عظيمٍ من القوَّة المادِّيَّة.
انتشار الفرق والتيارات (المنحرفة) المحسوبة على الإسلام:
إِنَّ أعظم انحرافٍ وقع في الدولة العثمانية كان في ظهور التيارات والفرق المنحرفة المحسوبة على الإسلام، التي دخل بعضها تحت عباءة التصوف الإسلامي، ولكنها في الحقيقة تيارات الانحراف الفكري المحسوب على التيار الصُّوفي، ظهرت كقوَّةٍ منظَّمةٍ في المجتمع الإِسلامي تحمل عقائد وأفكاراً وعبادات، بعيدةً عن كتاب الله، وسنَّة رسوله ﷺ، وكانت نظرة أولئك المحسوبين على الصوفية احترام البطالة والتقاعس عن العمل، وكانت تبيح التَّسوُّل، وتصطنع الضِّيق، وتسعى إِلى مواطن الذُّلِّ.
انتشار البدع:
كان السَّلاطين الأوائل في الدَّولة العثمانيَّة ينفِّرون من البدع، وأهلها، ويحاربونها، فهذا السُّلطان محمد الفاتح في وصيَّته يقول لمن بعده: «جانب البدع، وأهلها، وباعد الَّذين يحرِّضونك عليها»، أمَّا في العصور المتأخِّرة من الدَّولة العثمانيَّة؛ فإِنَّ البدع انتشرت انتشاراً ذريعاً، وأصبحت حياة رعايا الدَّولة ممزوجةً بها، فقلَّما تخلو منها عبادةٌ أو عملٌ، أو شأنٌ من شؤون الحياة، وهكذا أصبحت البدع تُرى في كلِّ مكانٍ، تكاد تحتلُّ منزلة الصَّدارة من حياة النَّاس، يعمل بها الجاهلون، ويؤيِّدها العالمون، وأصبحت السُّنَّة بدعةً، والبدعة سنَّةً، وتغيَّر مفهوم الدِّين، والعلم من منهجٍ كاملٍ، وشاملٍ لجميع مجالات الحياة إِلى طقوس غريبةٍ، ورسومٍ باليةٍ يتشبَّثون بها.
غياب القيادة الربَّانيَّة:
إِنَّ القيادة الرَّبَّانيَّة من أسباب نهوض الأمَّة، والتَّمكين لها؛ لأنَّ قادة الأمَّة هم عصب حياتها، وبمنزلة الرَّأس من جسدها، فإِذا صلح القادة؛ صلحت الأمَّة، وإِذا فسد القادة؛ صار هذا الفساد إِلى الأمَّة.
قاد محمَّد الفاتح الأمَّة في زمنه قيادةً ربَّانيَّةً، وقد جرى الإِيمان في قلبه، وعروقه، وانعكست ثماره على جوارحه، وتفجَّرت صفات التَّقوى في أعماله وسكناته وأحواله، وكان العلماء الرَّبَّانيُّون هم قلب القيادة في الدَّولة، وعقلها المفكِّر، ولذلك سارت الأمَّة والدَّولة العثمانيَّة على بصيرةٍ، وهدىً، وعلمٍ.
وأمَّا في العصور المتأخِّرة؛ فكان يوجد انحراف خطير في القيادة العثمانيَّة على المستوى العسكريِّ، والعلميِّ، ولقد أخلد العلماء في أواخر الدَّولة العثمانيَّة إِلى الأرض، واتَّبعوا أهواءهم، وضعفوا عن القيام بواجباتهم، فكانوا بذلك قدوةً سيِّئةً للجماهير الَّتي ترمقهم، وترقبهم عن قربٍ، ولقد غرق الكثير منهم في متاع الدُّنيا، وأترفوا فيها، وكمِّمت أفواههم بدون سيفٍ أو سوطٍ، ولكن بإغداق العطايا عليهم من قبل الباشوات، والحكَّام، ووضعهم في المناصب العالية ذات المرتَّبات الجزيلة، والمزايا العظيمة، الَّتي تكون كفيلةً بإِسكات أصواتهم، وكبح ثورتهم، واعتراضهم.
انتشار الظُّلم في الدَّولة:
إِنَّ الظُّلم في الدَّولة كالمرض في الإِنسان يعجِّل في موته بعد أن يقضي المدَّة المقدَّرة له وهو مريضٌ، وبانتهاء هذه المدَّة يحين أجل موته، فكذلك الظُّلم في الدَّولة يعجِّل في هلاكها بما يحدثه فيها من آثارٍ مدمِّرةٍ تؤدِّي إِلى هلاكها، واضمحلالها خلال مدَّةٍ معيَّنةٍ يعلمها الله.
وقد اشتدَّ ظلم الأتراك للعرب والأكراد والألبان مع مجيء الاتِّحاد والتَّرقي للحكم، بل قامت تلك العصابة بظلم النَّاس في داخل تركيا، وخارجها، وما تعرَّض له السُّلطان عبدالحميد الثاني من ظلمهم وعسفهم وجورهم؛ فجرت فيهم سنَّة الله الَّتي لا تتبدَّل ولا تتغيَّر ولا تجامل، فانتقم من الظَّالمين، وجعل بأسهم فيما بينهم، وزالت دولة الخلافة العثمانيَّة من الوجود.
الاختلاف والفرقة:
إِنَّ سنَّة الله تعالى ماضيةٌ في الأمم، والشُّعوب لا تتبدَّل، ولا تتغيَّر، ولا تجامل، وجعل الله تعالى من أسباب هلاك الأمم الاختلاف، وقال صلى الله عليه وسلم: «فإِنَّ من كان قبلكم اختلفوا، فهلكوا»، والاختلاف المهلك للأمَّة هو الاختلاف المذموم، وهو الَّذي يؤدِّي إِلى تفريقها، وتشتُّتها.
وقد ابتليت الدَّولة العثمانيَّة خصوصاً في أواخر عهدها بالاختلاف، والتَّفريق بين الزُّعماء، والسَّلاطين، فقد حاول بعض الحكَّام المحلِّيِّين الاستقلال الذَّاتي عن الحكومة المركزيَّة بإِطالة فترة حكمهم، ومحاولة تأسيس أسرٍ محلِّيَّة (المماليك في العراق، آل العظم في سورية، المعنيُّون، والشِّهابيُّون في لبنان، ومحمَّد علي في مصر، ظاهر العمر في فلسطين، وأحمد الجزَّار في عكا، وعلي بك الكبير في مصر، والقرامليُّون في ليبيا)، وهذا الصِّراع بين الحكَّام المحلِّيِّين، والدَّولة العثمانيَّة ساهم في إِضعافها، ثمَّ زوالها، وسقوطها.
إغلاق باب الاجتهاد:
عانت الأمَّة من قفل باب الاجتهاد، وكانت الدَّولة العثمانيَّة في أواخر عهدها لم تعط هذا الباب حقَّه، وكانت عجلة الحياة أسرع، وأقوى من الجامدين، والمقلِّدين الَّذين ردُّوا كلَّ جديدٍ، وخرج الأمر من أيديهم، وهكذا توقَّفت الحركة العقليَّة عند المسلمين إِزاء كلِّ جديدٍ تلده الحياة، واستمرَّ التَّعصُّب المذهبي في إِضعاف المستوى التَّعليميِّ، وانحدار العلوم، وجمودها، وتكبيل العقول، والأفهام، والحجر عليها.
لقد كان التعصُّب المذهبي منحرفاً عن منهج الله تعالى، وزاد هذا الانحراف عمقاً في حجر العقول، وجمود العلوم، وتفتيت الصَّفِّ الإِسلامي ممَّا كان له أعظم الأثر في ضعف الدَّولة العثمانيَّة، وانحطاطها، وانشغالها بمشكلاتها الدَّاخلية في الوقت الَّذي كانت المؤامرات قد أحاطت بها، وشرع الصَّليبيُّون في الإِجهاز على الرَّجل المريض.
ومن الدروس والعِبر المستفادة من سقوط دولة الخلافة العثمانية:
1- ترتَّب عن سقوط الدولة العثمانية التي هي نتيجة لابتعاد الأمَّة عن شرع ربِّها آثار خطيرةٌ، كالضَّعف السِّياسيِّ، والحربيِّ، والاقتصاديِّ، والعلميِّ، والأخلاقيِّ، والاجتماعيِّ، وفقدت الأمّة قدرتها على المقاومة، والقضاء على أعدائها، فاستُعمرت وغُزيت فكريَّاً، نتيجة لفقدها شروطَ التَّمكين، وابتعادها عن أسبابه المادِّيَّة والمعنويَّة، وجهلها بسنن الله في نهوض الأمم، وسقوطها، قال تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ﴾ (الأعراف: 96).
2- سنن الله تعالى تتسم بالثبات والشمول والصراحة؛ فلا تحابي فرداً على حساب فرد، ولا مجتمعاً على حساب مجتمع آخر؛ فالنتائج التي قد يتطلّع إليها على وجه الأرض أكثر المؤمنين إيماناً وأشدهم ورعاً وتقوى سوف يجنيها أكثر الكافرين كفراً وأشدهم فسقاً وفجوراً وعتوّاً، إذا وافق المقدمات الصحيحة المؤدية إليها، وربَط الأسباب بمسبباتها.
3- إنّ الدّولة العثمانيّة كأيّ دولة من الدول تزدهر ويعلو شأنها بأخذها بأسباب التّقدم والنّجاح وتخبو شعلتها إذا ألمّت بها أدواء التخلف وعوامل الانحطاط، وإنَّ اندفاعنا لإلقاء الّلوم والعتاب على سلاطينها وتحميل قادتها مسؤوليّة التّخلف الّذي نعانيه اليوم، أو المبالغة في مدحهم وإطرائهم لن يأتي علينا بأي فائدة تذكر.
إنّ الدولة العثمانية عاشت مراحل من القوة والازدهار والتوسع كأكثر دولة حكمت المسلمين، ولكن دخلتها الأمراض والعلل والآفات الأخلاقية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والسياسية، من الترف والانحراف عن القيم الإيمانية في آخر عهدها، وانتشار الخرافات والبدع والتيارات المنحرفة المحسوبة على الإسلام، وغياب القيادة الربانية، وهي عوامل مؤذنة بخراب العمران، ففي الدولة العثمانية، بلغ الترف غايته ففسدت الأخلاق، وتحول التعاضد إلى تخاذل وعداوة، وهو ما أدى في نهاية المطاف لسقوط الدولة، وهذا ما جاء ذكره في سورة الإسراء في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا﴾ (الإسراء: 16).