روى أبو داود في السنن عن أبي هريرة أن أبا بكر قال: يا رسول الله: مرني بكلماتٍ أقولُهُن إذا أصبحتُ وإذا أمسيتُ، قال: «قل: اللهم فاطرَ السمواتِ والأرضِ عالمَ الغيبِ والشهادةِ ربَّ كلِّ شيءٍ ومليكَه، أشهدُ أن لا إله إلا أنت، أعوذُ بك من شرِّ نفسي، وشرِّ الشيطانِ وشِرْكِه، قال: قلْها إذا أصبحتَ، وإذا أمسيتَ، وإذا أخذتَ مضجعَك».
ضبط بعض العلماء قول النبي: «وشِرْكه» بالفتح «وَشَرَكِه»؛ أي مصايده وحبائله التي يفتتن بها الناس.
ويفهم من ذلك أن نبينا صلى الله عليه وسلم قد استعاذ من خطر الشيطان وشره، فللشيطان مصايد كثيرة وحبائل متنوعة يتصيد بها العباد، وإن مما يخفى على كثير من الناس أن الشيطان قد ينصب شباكه ومصايده ويروج لأهدافه في صورة خواطر الخير وأعمال البر، لا سيما إذا علم أن الفريسة ممن يحرص على الخير وتجنب الشر، قال الحسن بن صالح: «إن الشيطان ليفتح للعبد تسعة وتسعين بابًا من الخير يريد به بابًا من السوء»، فتكون أبواب الخير هذه بمثابة الكمائن والفخاخ التي يوقع الشيطان فيها العباد، ومن بين هذه المصايد:
أولاً: مصيدة التشدد في الطاعة:
وذلك أن يحمّل الإنسان بدنه من العمل ما لا يطيق، وهذه خدعة شيطانية قد تفضي بالعبد إلى ترك العبادة وهجرها بالكلية، وقد أراد الشيطان أن يوقع فيها عبدالله بن عمرو بن العاص حيث قال: أنكحني أبي امرأة ذات حسب، فكان يتعاهد كنّته، فيسألها عن بعلها، فتقول: نعم الرجل من رجل؛ لم يطأ لنا فراشاً، ولم يفتش لنا كنفاً منذ أتيناه، فلما طال ذلك عليه ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «ألقني به»، فلقيته بعد، فقال: «كيف تصوم؟»، قال: كل يوم، قال: «وكيف تختم؟»، قال: كل ليلة، قال: «صم في كل شهر ثلاثة، واقرأ القرآن في كل شهر»، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم ثلاثة أيام في الجمعة»، قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «أفطر يومين وصم يوماً»، قال: قلت: أطيق أكثر من ذلك، قال: «صم أفضل الصوم صوم داود: صيام يوم، وإفطار يوم، واقرأ في كل سبع ليال مرة».
وفي رواية قال له: «صم وأفطر، ونم وقم، فإن لجسدك عليك حقًا، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقًا»، قال: فشددت فشدد عليَّ، فليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وذاك أني كبرت وضعفت.
فالتشدد على النفس في العبادة أمر مناف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم الذي قال: «إني أخشاكم لله وأتقاكم له، أما وإني أصوم وأفطر، وأنام وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني»، فأحب الأعمال إلى الله أدومه وإن قل، وقليل دائم خير من كثير منقطع، وإن المداومة على قليل الدواء تورث الشفاء بإذن الله.
ثانياً: مصيدة الرجاء:
والرجاء في أصله عبادة قلبية محمودة، ومقام تعبدي لطيف يهون السير على العابدين، فلولاه لعطلت عبودية القلب والجوارح، ولما تحركت الجوارح بالطاعة، ولولا ريحه الطيبة لما جرت سفن الأعمال في بحر الإرادات.
والرجاء أنواع منه الصادق والكاذب، فمن الرجاء الصادق: أن يعمل العبد بطاعة الله على نور من الله يرجو ثواب الله، أو أن يقع العبد لضعفه وبشريته في معصية الله ثم يقلع عنها نادماً وهو يرجو مغفرة الله.
أما الرجاء الكاذب: فهو رجاء أهل الإساءة والعصيان، رجاء المتمادين في الخطايا المستمرئين للمعاصي، الذين يستغفرون بألسنتهم دون ندم أو إقلاع أو عزم على عدم الرجوع للمعصية، فهذا أكذب الرجاء، وهؤلاء غارقون في الوهم.
يقول ابن القيم: فكثير من الناس يظن أنه لو فعل ما فعل من الذنوب ثم قال: أستغفر الله؛ زال أثر الذنب بهذا! وقال لي رجل من المنتسبين إلى الفقه: أنا أفعل ما أفعل ثم أقول: سبحان الله وبحمده مائة مرة وقد غفر ذلك أجمعه، كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من قال سبحان الله وبحمده مائة مرة حطت عنه خطاياه ولو كانت مثل زبد البحر»! وقال لي آخر: نحن أحدنا إذا فعل ما فعل ثم اغتسل وطاف بالبيت أسبوعًا قد محي عنه ذلك. أ هـ.
ولا شك في أن هذا كله من تلبيس إبليس على العباد في إحسان الظن مع إساءة العمل، وأنه فخ شيطاني لو دخله عبدٌ لهلك، فعلامة صحة الرجاء التوبة والندم وحسن العمل.
ثالثاً: مصيدة الدموع:
يقول العرباض بن سارية: وعَظَنَا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم مَوْعِظَةً وجِلَتْ منها القلوبُ، وذَرَفَتْ منها العيونُ، فقلْنَا: يا رسولَ اللهِ، كأَنَّ هذه مَوْعِظَةُ مُودِّعٍ فأوصنا.
وقال سفيان بن عيينة: البكاء من مفاتيح التوبة، ألا ترى أنه يرق فيندم؟
وهذا ما فهمه الصحابة والسلف الصالحون، فالبكاء علامة على رقة القلب وسبيل إلى استحضار الذنب والندم عليه، وهذا من شأنه أن يدفع العبد إلى طاعة الله تعالى دفعاً، ولذا استغل العرباض هذه الحالة الرقيقة فقال للنبي صلى الله عليه وسلم بعد الموعظة البليغة: أوصنا؛ ذلك لأن أنفع الدموع ما يتبعها الندم والعمل والرجوع.
وقد لبس إبليس على كثير من الناس، يحضرون مجالس الذكر وخطب الجمع فيبكون ويتأثرون ويزرفون الدموع، لكنها كدموع التماسيح، إذ لا يتغير حالهم قيد أنملة، بل يرجع إلى ما اعتاد من الغش والربا والعقوق والمعاصي بعدما فرغ الشيطان شحنة إيمانه في دموع عابرة وزفرات متقطعة أوهمه من خلالها أنه على خير، وأنه قد رجع من ذنوبه بعد نوبة دموعه كيوم ولدته أمه، وقد أنساه أن العبرة بصدق التوبة والرجوع، لا بغزارة الدموع.
رابعاً: مصيدة المفضولات:
عن ابن عمر قال: جاء رجل إلى رسول الله، فاستأذنه في الجهاد فقال: «أحي والداك؟»، قال: نعم، قال: «ففيهما فجاهد»، وفي رواية قال: «فارجع إلى والديك فأحسن صحبتهما».
فقد يشغل الشيطان العبد بفعل طاعة مفضولة ليفوت عليه طاعة أفضل منها، ولذا نصح الحسن البصري رجلًا فقال له: تعشَّ العشَاء مع أمك تقرُّ به عينها، أحب إلى من حجة تطوعًا.
ولما سئل الفضيل بن عياض عمن يترك الطيبات من اللحم والخبيص للزهد، فقال: ما للزهد وأكل الخبيص! ليتك تأكل وتتقي الله، إن الله لا يكره أن تأكل الحلال إذا اتقيت الحرام.
وقد لخص ابن عطاء السكندري هذه المصيدة في حكمة من حكمه فقال: من علامات اتباع الهوى، المسارعة إلى نوافل الخيرات، والتكاسل عن القيام بالواجبات.
خامساً: مصيدة الخوف من الرياء:
معلوم أن عمل المرائين حابط لا وزن له ولا قيمة، فهو قشر لا لب فيه، واللب وحده هو الذي يثقل كفة الميزان في ساحة الحساب لا القشر، فالمرائي يزور توقيع العابدين المخلصين ليقبض في الدنيا الثمن من شهرة ومكانة، لكنه لن يجني في الآخرة غير العذاب والمهانة.
ولذا كان الصالحون يخافون الرياء ويحذرونه، ويجتهدون في إخفاء أعمالهم عن الناس خوف العجب والرياء، يقول الربيع بن سليمان: دخلت على الشافعي وهو عليل فقال: يا بني، وددتُ أن الخلق كلهم تعلموا -يعني كتبه وعلمه- ولا ينسب إليّ منه شيء.
وعلى الرغم من خطورة الرياء، فإن الاعتدال في الخوف منه مطلوب؛ لأن الأمر إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، فالماء يروي لكنه يغرق، والشمس تنشر نوراً، لكنها تقتل حرّاً، فعدم الاعتدال في الخوف من الرياء قد يوقع العابد في كمين الشيطان، فيكون كمن هرب من عقرب فلقي ثعبانًا.
وأخطر ما في هذه المصيدة الشيطانية أنها تدفع بالعابد إلى ترك العمل، والتوقف عن كثير من العبادات بسبب الخوف من الرياء، حتى يصاب المسكين بالوسوسة والحيرة، في كونه مخلصًا فيستمر في العمل، أم مرائيًا فيتوقف عن العمل، إلى أن ينتهي به الأمر بعذابات نفسية وقلق واضطراب مع القعود عن كثير من عمل الخير.
ولذا، كان لا بد من ضابط وميزان لهذا الفخ الشائك، ويتحقق ذلك بمعرفة أمرين:
الأول: أن يعلم أن العمل لأجل الناس شرك، وترك العمل لأجل الناس رياء، والإخلاص هو العافية منهما.
الثاني: أن يعلم أن الخوف سوط دافع إلى العمل، فإذا أدى إلى ترك العمل فليس أضر منه.
وبعد، فهذه 5 مصايد شيطانية، ظاهرها الرحمة، وباطنها فيه العذاب، والسعيد من فقهها وتوخاها وأفسد على عدو الله مفعولها وحذر الناس منها، والله أعلم.