الإنسان الفرد هو أساس المجتمع وعماده الأول، ومحور هذا الكون، وأهم لبنة في صرحه الشامخ، وبنيانه السامق، فهو مدني واجتماعي بطبعه، يبدأ حياته بمركب مزدوج؛ أبيه وأمه؛ لذا فالأسرة هي المحضن الأول.
وهو كذلك ابن بيئته وأسرته؛ فهي تؤثر في تكوين سلوكه وأفكاره وقيمه وعاداته ودينه وثقافته ولغته، وهي الأرض الخصبة التي يمكن أن نزرع فيها كل معاني الحب والرحمة والفضيلة في نفوس الناشئة.
الهمة عمل القلب، وعنوان السبق، وبوابة المجد، والعاقل يدرك أنه قلب نابض لهذه الأمة؛ فلا يستصغر نفسه، ولا يُهن همته، وليكن كالطير الطماح يطير في جوف السماء ويخرقه بجناحيه فيحلق به لأعلى الآفاق، ومن مآثر أقوالهم: رجل ذو همة يُحيي الله به أمة، ورجل ذو همة يزن أمة وتتزن به الأمة، ويقول ابن القيم: «كمال الإنسان بهمة ترقيه، وعلم يبصره ويهديه، فمراتب السعادة والفلاح تتحقق للعبد من هاتين الجهتين»(1)، وله درة نفيسة في «بدائع الفوائد» يقول فيها: «العلم والعمل توأمان أمهما علو الهمة»(2).
بعض الأسر تحرص على تفوق أبنائها دراسياً وتخفق في إحياء همتهم دينياً وتربوياً
هناك بعض الأسر تحرص على تفوق أبنائها دراسياً، ولكنها تخفق في إحياء همتهم وتقوية إرادتهم دينياً وتربوياً، فكم من همة علت ثم سفلت، وعزيمة أبرمت ثم نقضت! والنفس بين قوة العزيمة ومرارة الهزيمة تحتاج إلى قبس من تاريخنا المجيد وماضينا التليد.
صحيفة النسب الطيب
التاريخ وعاء الزمن ومستودع الأحداث والعبر، لأنه كتب ومضى به القلم وصارت به الرواحل، وتاريخنا الإسلامي حافل بالنماذج المضيئة التي تربت في أحضان الفضيلة؛ فآتت أُكُلها ضعفين، من هذه النماذج الطيبة عروة بن الزبير، وأخوه عبدالله، رضي الله عنهما، فماذا عن صحيفة النسب الطيب؟
أولاً: أبوه الزبير بن العوام، حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية بنت عبدالمطلب، وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، وأول من سلَّ سيفه في سبيل الله أبو عبدالله، أسلم وهو حدث له ست عشرة سنه، روى أحاديث يسيرة، حدث عنه بنوه عبدالله، ومصعب، وعروة، وآخرون(3).
ثانياً: أمه أسماء بنت أبي بكر القرشية خاتمة المهاجرين والمهاجرات، وآخر المهاجرات وفاة، روت عدة أحاديث، وعمرت دهراً، وتُعرف بـ«ذات النطاقين»، وكانت أسنّ من عائشة ببضع عشرة سنة، هاجرت حاملاً بعبدالله، وقيل: لم تسقط لها سن، ومسندها به ثمانية وخمسون حديثاً(4).
ثالثاً: جَدُّه صِدِّيق الأمة، صاحب الغار، سيد من سادات الليل الساجي.
رابعاً: خالته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، عنوان العفة والنقاء، ورمز الفضيلة والوفاء، لازمها عروة وتفقه منها، في رحاب هذا الجو الطهور وهذه البيئة الصالحة نشأ عروة وإخوانه أولاد الزبير بن العوام، ولله ما أروع هذه البيئة! وما أجمل هذا الاختيار! وهذه الأسرة على أساس الإسلام أقامت البناء، وبشجرة الدين والأخلاق ارتوى الأبناء، وإذا كانت الشجرة طيبة، فإن جذورها ثابتة، وأغصانها في السماء، ثم إذا كان هذا هو المحيط الخارجي والداخلي طهراً وعفافاً ونبلاً وسخاء؛ فما الثمر المرتقب؟ إنه رموز من علو الهمة والنقاء وعناوين للتضحية والفداء.
أصحاب الهمة يجعلون من النقمة نعمة ومن المحنة منحة ويستقبلون النوازل بصبر
همة ترمي إلى جنة الخلد
من بين ما تعيه الذاكرة من كتاب الحياة وما أصدقه، أنه لا بد للإنسان أن يتقلب بين عدة أحوال؛ الشباب والشيخوخة والصحة والمرض والحزن والفرح والحياة والموت، هذا لسان الواقع المشاهد غالباً، لكن للصالحين فلسفة خاصة في استقبال النوازل؛ فهم يزرعون في الحياة بإيمان وثيق، وإخلاص عميق، وتبقى حصيلة الثمر رهينة في يد القدر، وأصحاب الهمة العالية يجعلون من النقمة نعمة، ومن المحنة منحة، وعندما تدلهم الخطوب، وتتوالى الكروب؛ فإنهم يستقبلون النوازل بصبر يضاهي الجبال الشم؛ لأنهم يعلمون أن الصبر ضياء، ويجعلون منه عنواناً للسعادة ومفتاحاً لجنة الخلد.
عن الزهري قال: وقعت الأكلة في رجل عروة فصعدت في ساقه، فقال الأطباء: ليس له دواء إلا القطع، فقالوا: نسقيك شراباً يزول فيه عقلك؟ فقال: ما كنت أظن أن خلقاً يشرب ما يزيل عقله حتى لا يعرف ربه، فوضع المنشار على ركبته اليسرى فما سمعنا له حساً، فلما قطعت رجله جعل يقول: لأن أخذت لقد أبقيت، ولأن ابتليت لقد عافيت، وما ترك جزءه بالقرآن تلك الليلة، وفي نفس اليوم أصيب في ابنه محمد الذي سقط من أعلى سطح في إصطبل الوليد فضربته الدواب بقوائمها فقتلته، فقال في مصابه في ولده: اللهم أخذت عضواً وتركت أعضاء، وأخذت ابناً وتركت أبناء.
وعن عبدالله بن عروة قال: نظر أبي إلى رجله في الطست فقال: الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط(5).
وفي هذا الموقف العظيم عدة دروس دعوية وتربوية ينبغي توظيفها في الواقع ليتعلم منها الآباء والمربون:
1- الصبر على البلية، وهو من أعظم عطايا رب البرية، ذلك أن عنوان السعادة في ثلاثة أمور: الشكر على العطية، والصبر على البلية، والاستغفار من الخطية، وهذه الثلاثة جمعت الدين كله، وصدق الله العظيم: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155)، لقد اعتبر المرض ضيف الله نزل به فهشّ له وبشّ وفرح واستبشر، وحقاً فكم في أرحام البلايا من منح وعطايا!
ضرورة الحفاظ على العقل سليماً لأنه أساس البناء الإنساني وبه يتفاضل الناس
2- الحفاظ على العقل؛ لأنه أساس البناء الإنساني، وبه يتفاضل الناس، وهنا لفتة كريمة لمن يدمرون خلايا هذا العقل بتعاطي الخمور والمخدرات، لقد رفض عروة أن يشرب ما يُذهب عقله، وإن كان هذا جائزاً للتداوي، ولو فعل لكان له مندوحة، لكنه ما فعل!
3- توظيف الأعضاء كاملة في طاعة الله تعالى؛ لأنها أمانة سترد إلى خالقها، فعلينا أن نتقي الله فيها، وأن نؤدي إلى الله زكاة الصحة والعافية، فالصحة هي الملك الخفي، والعافية مال مختزن.
4- من أين استمد عروة هذا الصبر حتى أصبح بحق جبلاً من جبال الصبر؟ استمده من محيط الأسرة الكريمة؛ فهذه أمه رضي الله عنها صبرت على مقتل أخيه عبدالله بن الزبير بن العوام، الذي قتله الحجاج بن يوسف الثقفي ظلماً وهو لائذ ببيت الله الحرام، وقد كفَّنته وصلَّت عليه، ومن جاور أصحاب الهمة العالية حلق في سماء الجوزاء وعانق الثريا، ثم إنه رأى الثواب بعين اليقين في الدنيا، فحلاوة الثواب أنسته مرارة المصاب.
5- حوار مع الأعضاء قبل المخاصمة يوم فصل القضاء، فعروة يعلم أنها أمانة فحفظها وخاطبها يوم ودعها قائلاً: «الله يعلم أني ما مشيت بك إلى معصية قط»، وهذا خير قبل أن يُصدم الإنسان بمخاصمتها ونطقها يوم القيامة؛ (حَتَّى إِذَا مَا جَاؤُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ {20} وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) (فصلت).
_____________________________
(1) بدائع الفوائد، ص211.
(2) المرجع السابق، ص774.
(3) سير أعلام النبلاء (1/ 41).
(4) المرجع السابق (2/ 292).
(5) المرجع السابق (4/ 430).