الاختلافُ حقيقةٌ كونيةٌ اعترف بها الإسلامُ، والتعددية في منطق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر والأخذ عنه؛ «الحكمة ضالة المؤمن، حيث وجدها فهو أحق الناس بها»، والمؤمن يألف ويؤلف، يفتح عقله وقلبه للناس جميعًا، لا يستكبر على أحد، ولا يمـنُّ على أحد، ولا يضيــق بأحد، يده مبســوطة للجميــع بالخيـر والحب والصفاء، وقد أُرسل النبي ﷺ للناس جميعًا، المؤمن والكافر، والعربي والأعجمي، والأسود والأبيض، والأحمر والأصفر، والرجل والمرأة؛ (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا…) [سبأ: 28]، (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا) [الأعراف: 158]..
الشريعة الإسلامية والكرامة الآدمية
ولقد سبقت الشريعةُ الإسلاميةُ قوانينَ العالَمِين بقرون فيما يخصُّ قيم الحرية والمساواة والكرامة الآدمية؛ (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آَدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) [الإسراء: 70].. فأعطى الإسلامُ الإنسانَ -أي إنسان- الحقَّ في الحياة؛ (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ…) [الإسراء: 33]، بل اعتبر قتل نفس واحدة بمثابة قتل للناس جميعًا؛ (مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا ) [المائدة:32]، وشرع القصاصَ في الأطراف والجروح، وفي اللطمة واللكزة، وحرّم تعذيب الإنسان؛ «إن الله يعذب الذين يعذبون الناس في الدنيا» [مسلم]، أو أن توجّه إليه إساءة، كسبٍّ أو قذفٍ أو غيبةٍ، أو تجسسٍ أو همزٍ أو لمزٍ أو سخريةِ أو احتقار.. وحرّم الإسلام الظلم «اتقوا الظلم، فإن الظلم ظلمات يوم القيامة» [مسلم]، وألّا يؤاخذ الناس بالشبهات.
الإسلام وحقوق المواطنة
وتبدو قيم المواطنة الثلاث في الدولة العصرية: (الحرية، والمساواة، والمشاركة) أكثر تحققًا في النظام الإسلامي عن أي نظام أو دين آخر.. فللفردِ في حِمَى الشريعة ودولة الخلافة الإسلامية حقوق شخصية وقضائية وسياسية وفكرية إلخ، جاءت الحديث عنها صريحًا في نصوص الوحيين.. فله الحق في الخصوصية؛ (لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا…) [النور: 27، 28]، وله الحق في التنقّل؛ (هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ) [الملك: 15]، وله الحق في المأوى والسكن والزواج؛ «من كان لنا عاملًا فليكتسب زوجة، فإن لم يكن له خادم فليكتسب خادمًا، فإن لم يكن له مسكن فليكتسب مسكنًا» [أبو داود]، وله الحق في اختيار الحاكم ومساءلته وعزله، وله الحق في العلاج على نفقة الدولة، وفي الكفالة الاجتماعية والعيش الكريم، وله الحق في الحصول على قسط وافر من التعليم.
الحرية ولدت من رحم الإسلام
جاء الإسلام وتجارة الرقيق كتجارة الخبز والدقيق؛ فعمد إلى تحديد روافد الرقِّ، وإنضاب معينه، وتوسيع منافذ العتق، ولم يكتفِ بذلك، بل دعا الأرقّاء أنفسهم إلى أن يفكّوا قيودهم، فأمرهم بالمكاتبة، وحثّ المجتمع المسلم على إنجاح هذه الخطة، وقد نجحت.. وهذه الحرية التي قررها الإسلام للعبيد، قرّرها لرعايا الدولة الإسلامية من غير المسلمين؛ فلا يختلف الآخرون عن المسلمين إلا فيما يتصل بالعقيدة، فلهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم، مع تركهم وما يدينون؛ حيث (لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ…) [البقرة: 256].. وهذه الحرية ليست منّة من الحاكم، بل هي مسئولية شرعية، وهذه المسئولية لا تقبل –من ثَمَّ- المساومة أو التأجيل أو الاستثناء، فالكل أمام هذه الحرية سواء، وليس من حق أحد -كائنًا من كان- أن يسلبها الآخرين.
مبدأُ المساواة في الإسلام
قال عروة بن الزبير: (إنّ امرأة سرقت في عهد رسول الله ﷺ في غزوة الفتح، ففزع قومها إلى أسامة بن زيد يستشفعونه، قال عروة: فلما كلّمه أسامة فيها تلوّن وجه رسول الله ﷺ، فلما كان العشي قام رسول الله ﷺ خطيبًا فأثنى على الله بما هو أهله، ثم قال: «أما بعد، فإنما أهلك الناس قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، والذي نفس محمد بيده لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعتُ يدها»، ثم أمر رسول الله ﷺ بتلك المرأة فقُطعت يدُها).. فالإسلام لا يستثني أحدًا من الوقوف أمام القضاء، ويسوّي في العطاء بين الجميع دون النظر إلى اللون أو الجنس أو المعتقد.. والعدل في الإسلام قيمة مطلقة، وأدنى درجاته أن تقف في صفِّ المظلوم، وهذا ما جعل النبي ﷺ يعتزُّ بحضوره حلف الفضول الذي يعدُّ من مفاخر العرب؛ يقول ﷺ: «شهدتُ حلفَ المطيبين مع عمومتي وأنا غلام، فما أحبّ أن لي به حمرَ النعم، وأنّي أنكثه» [أحمد].
تطبيق الشريعة لا يخلُّ بالمواطنة
هناك من يدّعي أن تطبيق الشريعة في دولة الخلافة ينافي مبدأ المواطنة الذي يدعم حرية الدين.. وهذا الادّعاء مردود عليه، فأحكام الشريعة لا تُقدَّم لغير المسلمين على أنها دين يؤمنون به، ولكنها تُقدَّم كقانون اجتماعي تُحاربُ به الجريمةُ –مثلًا- التي حرّمتها كل الأديان، وإن الشئون الاجتماعية هي حق الأمة ومظهر سيادتها، فهم فيها تبعٌ للأكثرية، فالإنسان في فرنسا أو إنجلترا مثلًا يُحاكم بمقتضى قانون البلاد دون النظر إلى قانون بلده أو تشريع دينه.. والشريعة الإسلامية لا يضيق صدرُها بأي نظام عصري من شأنه أن يحقق العدل ويوفّر الثقة بين المواطنين.. وقد قررت الشريعة من يوم نزولها مبدأ «الحرية» في أروع مظاهرها، فقررت حرية الفكر، وحرية الاعتقاد، وحرية القول، وجاءت بمبدأ «الشورى»، وجاءت بتقييد سلطة الحاكم وبمسئوليته عن أخطائه وعدوانه.
وقفة مع «دستور» المدينة
بعد استقرار النبي ﷺ في المدينة وشروعه في بناء دولته، كتب صحيفة؛ بغرض تحديد الحقوق والواجبات للمجتمع الجديد، وهذه الالتزامات لم يكن أساسها دينيًّا، وإنما كانت نوعًا من الخضوع للنظام العام؛ إذ الدولة الناشئة بين رعاياها مهاجرون وأنصار ويهود ومشركون.. وفي هذه الوثيقة (أو الدستور) حديث عن مبادئ المواطنة في أجلى صورها؛ فهناك تكافل؛ «وإن المؤمنين لا يتركون مفرحًا (مثقلًا بالدين) أن يعطوه بالمعروف» [المادة 2]، وهناك عدالة؛ «وإن المؤمنين المتقين أيديهم على كل من بغى منهم أو ابتغى دسيعة ظلم (أي طلب عطية من دون حق) أو إثمًا أو عدوانًا أو فسادًا بين المؤمنين» [المادة: 13].. واعتبرت الصحيفة اليهود جزءًا من مواطني الدولة الإسلامية؛ «وأن من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة، غير مظلومين ولا متناصر عليهم» [المادة 16]، وكفلت لهم –من ثمَّ- حرية العقيدة؛ «إن يهود أمة مع المؤمنين، لليهود دينهم، وللمسلمين دينهم» [المادة: 25].. ونصت الوثيقة على المساواة بين الجميع؛ فـ«ذمة الله واحدة»، «وأن المؤمنين يبيء (أي يساوي) بعضهم على بعض» [المادة: 19].. والمواطن في هذه الوثيقة آمن على نفسه؛ «وإن الجار كالنفس غير مضار ولا آثم» [المادة: 40]، وله الحرية التامة في التنقّل، دون أن يتعرض له أحدٌ؛ «وإنه من خرج آمنٌ، ومن قعد آمنٌ بالمدينة» [المادة: 46].