لقد تعرض التاريخ الإسلامي والمؤرخون المسلمون لكثير من الحيف والعدوان، وكان أعجب ما قيل: «إن التاريخ صنع للحكام والملوك، ولم يرصد نبض الشعوب وأشواقها»، وبمثل هذه الألفاظ البراقة الخادعة يستميلون الشباب ويوقعونهم في قرار مظلم من الافتنان الكاذب والشك الموبق.
إن هذه القضية ينبغي أن تناقش على وجهها الصحيح، ويبدو أن كثيراً من كتَّابنا المعارضين قد خلطوا بين كتب التاريخ العام -أحداثاً وتراجم- وكتب المناقب، فكتب التاريخ العام إنما ترصد الحوادث والأحداث بصورة عامة وشاملة، ويدخل في نسيجها أخبار الخلفاء والملوك لا محالة، ويظهر لك هذا المنهج بوضوح في كتب التاريخ المرتبة على السنين «الحوليات»، وكذلك في كتب التراجم العامة، وتأمل مثلًا كتاب «سير أعلام النبلاء» للذهبي، و«الوافي بالوفيات» للصفدي، و«وفيات الأعيان» لابن خلكان، وسترى أن تراجم الخلفاء والوزراء إنما تأتي في ترتيبها الألف بائي ليس غير، بل إن بعض تراجم هؤلاء الخلفاء والوزراء تأتي أحيانًا خافتة وموجزة إذا قيست بترجمة عالم معاصر لهم، كالإمام أحمد بن حنبل مثلًا، الذي تملأ ترجمته صفحات كثيرة، فضلًا عما يتعرض له بعض هؤلاء الخلفاء أو الوزراء من نقد شديد، وإحصاء دقيق لأخطائهم وزلاتهم، ولست هنا بسبيل التمثيل لهذا أو ذاك.
أما كتب المناقب فهي كتب خاصة تدور حول شخصية واحدة، خليفة أو وزيراً، ولا بأس في ذلك ولا نكران؛ فإن من حق أي كاتب أن ينحاز إلى شخصية حاكمة ومؤثرة، ويفرد لها كتاباً يأتي على تاريخها وأعمالها، وهذا ما نشاهده إلى يوم الناس، نحن نقبله ولا نرفضه، ثم إن ما كتب في تراجم الأفراد خاصة ومناقبهم لم ينفرد به الحكام والخلفاء فقط، فقد ذكرت لك من قبل: مناقب أبي حنيفة، ومناقب الشافعي، ومناقب أحمد، وسيرة عمر بن عمر العزيز.
ويبدو أيضاً أن بعض من خاضوا في قضية «صنع التاريخ للحكام والملوك» قد خدعوا بتلك العنوانات التي تحمل أسماء الملوك والوزراء، مثلك كتاب «الصاحبي في فقه اللغة» لابن فارس، نسبة إلى الصاحب ابن عباد، الوزير الشهير، والإيضاح العضدي في النحو، لأبي علي الفارسي، نسبة إلى عضد الدولة بن بويه حاكم فارس والموصل وبلاد الجزيرة، و«اللامع العزيزي» -وهو شرح ديوان المتنبي- لأبي العلاء المعري، نسبة لعزيز الدولة فاتك بن عبدالله الرومي، الذي كان من رجال الحاكم بأمر الله الفاطمي، و«المستظهري» -وهو فضائح الباطنية- لأبي حامد الغزالي، نسبة إلى الخليفة العباسي المستظهر بالله، أحمد بن عبدالله.
فليس للصاحب بن عباد، ولا لعضد الدولة، ولا لعزيز الدولة، ولا للمستظهر بالله، ذكر في تلك الكتب إلا ما يكون من إشارة في المقدمات، فيها إشادة بهؤلاء الكبار أصحاب السلطة؛ لأن لهم عوناً ظاهراً للمؤلف ومساندة، كما نقول الآن: إن الكتاب الفلاني طبع بدعم من جامعة كذا، أو هيئة كذا، وتأمل الكتب التي تصدر تحت عنوان «سلسلة جب التذكارية» ونحوها، لأن هذه الجامعات والهيئات مؤَّلت الكتاب وأنفقت على طبعه، وأخبرني الآن عن أمير أو تاجر ثري يعينني على طبع كتاب من كتبي، وأنا زعيم أن أسمي كتابي باسمه الشريف، بل أجعل اسمه يتقدم اسمي، ثم أكيل له المديح والثناء منظوماً ومنثوراً، على أن هؤلاء الملوك والوزراء الذين جاءت أسماؤهم عنوانات للكتب كانت لهم مشاركة واهتمام باللغة والأدب وفروع العلم عموماً، ويكفي أن تعلم أن مؤرخ الإسلام الحافظ الذهبي حين ترجم لعضد الدولة البويهي وصفه بالنحوي.
ولعل من أشد العنوانات خداعاً ذلك الكتاب الذي ألفه ابن الجوزي وسماه «المصباح المضيء في خلافة المستضيء»، فهذا الكتاب وإن كان في ظاهره أنه في مناقب الخليفة العباسي المستضيء، فإنه ليس خالصاً له، وإنما استطرد ابن الجوزي فيه إلى تراجم كثيرة للصحابة وللخلفاء العباسيين، مع عناية ظاهرة بالوعظ والتذكير، يقدمها ابن الجوزي للسلطان أو للحاكم، لكي يستضيء بها في معالجة الأحوال السياسية والاجتماعية، كما ذكرت محققة الكتاب وناشرته العراقية د. ناجية عبدالله إبراهيم.
وكذلك كتاب «الدر الفاخر في سيرة الملك ناصر» لابن أيبك الدواداري من مؤرخي المماليك في القرن الثامن الهجري، فهذا ابن أيبك وإن كان منحازاً للسلطان محمد الناصر بن قلاوون؛ لأنه كان يعمل في بلاطه، فإن كتابه هذا يعد وثيقة مهمة في تاريخ مصر والشام في ذلك الوقت، وهو بمثابة يوميات لهذين القطرين الكبيرين وجهادهما مع فلول الفرنجة من التتار.
وتبقى قضية «تخليص التاريخ الإسلامي من الأخطاء والمبالغات»، وهي أيضاً من القضايا التي يعالجها الناس بكثير من الخفة والسهولة والمتابعة.
ومما لا شك فيه أن لبعض مؤرخينا الأولين أوهاماً وأخطاء، في رصد الأحداث وتسجيلها وتحليلها، وهذه الأوهام والأخطاء مما ينبغي التنبه لها والتنبيه عليها، على أنه ينبغي أن يكون واضحاً أن علومنا كلها ومعارفنا كلها منقودة من داخلها، ومدلول على الخطأ والوهم فيها منذ اللحظة الأولى لتدوين العلوم والمعارف، فالنقد عندنا سار مع التأليف خطوة خطوة، وهذا المنهج المعروف عند علماء الحديث، من القبول والرد، والتعديل والتجريح، قد امتد أثره إلى سائر العلوم الأخرى، وإن باب النقد في تراثنا وعلومنا باب واسع جداً، وضخم جداً، وينبغي أن يكون واضحاً أيضاً أن هذه الأمة لم تغفل عن تراثها هذه الآماد الطوال حتى يجيء فلاسفة هذا الزمان لينقدوا ويجرحوا ويخطِّئوا، ونعم، ليس لأحد -بعد الأنبياء- عصمة، فانقد ما تشاء، وحلل ما تشاء، واستنتج ما تشاء، ولكن بعد أن تجمع للأمر عدته، وتأخذ له أخذه، من القراءة المستوعبة المتأنية، والنظر الصحيح، وترك المتابعة إلا بعد ثبوت الدليل، على ما قالت العرب في كلامها الحكيم: «ثبت نسباً واطلب ميراثاً»، وعلى ما قال أبو الفتح ابن جني: «فكل من فرق له عن علة صحيحة وطريق نهجة كان خليل نفسه وأبا عمرو فكره.. إلا أننا مع هذا الذي رأيناه وسوغنا مرتكبه لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قال طال بحثها وتقدم نظرها.. إلا بعد أن يناهضه إتقاناً، ويثابته عرفاناً، ولا يخلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نزوة من نزوات تفكره» (الخصائص 1/ 190).
ويريد ابن جني أن يقول: إن من اهتدى إلى وجه من النقد صحيح، أشبه الخليل بن أحمد، وأبا عمرو بن العلاء، ولا ينبغي لأحد أن يخالف السابقين في آرائهم لشهوة الخلاف فقط، وأنه ليس من حقه أن يخالفهم إلا إذا وصل إلى مرتبتهم أو فاقها؛ علماً وبحثاً ونظراً، على ألا يسرع إلى الرأي بمجرد الخاطرة السانحة، والنزوة الفكرية الطارئة.
فهذا هو كلام أهل العلم، أما التخييل بالمنهج والتفكير العملي، للهجوم على تخطئة الأقدمين بالحق وبالباطل، فليس من العلم في شيء، ولا من العقل في شيء، وليس من الأدب أيضاً مع تاريخ الأمة أن يقول كاتب كبير معاصر عن الإمام المفسر المحدث المؤرخ أبي جعفر محمد بن جرير الطبري: «المؤرخ الأبله»!
ولو سألت هذا الكاتب الكبير عن ترجمة الطبري؛ حياة وعلماً وتصنيفاً، ووفاة، لما ظفرت بشيء، بل لو سألته عن عدد طبعات كتابه «تاريخ الأمم والملوك»، والفرق بين هذه الطبعات لما أجابك بشيء! ويقرأ الناس هذا ويسكتون! لهوان الماضي عليهم، وخفة الموروث في موازينهم، وقل: سبحان ربي!
لو تعرض أحد لبعض كتَّابنا ومفكرينا المعاصرين، لاهتزت الأرض بمن عليها، ولسمعت دوياً هائلاً وجلبة صاخبة حول رموزنا العظيمة التي لا ينبغي أن تنال، وأعلام التنوير التي لا يصح أن تطال، أما الهجوم على الأوائل، والسخرية منهم، والتطاول عليهم، فلا نكرة فيه ولا غضب منه؛ لأن «حمزة لا بواكي له»:
أتغضب أن أذنا قتيبة حزتا جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم
______________________
المصدر: كتاب مقالات الطناحي صفحات في التراث والتراجم واللغة والأدب.