لأول مرة في تاريخ العروبة والحنفية يجتمع وفود الأمم الإسلامية الشرقية والغربية في مكان واحد على شعور متفق وغرض مشترك وسياسة عامة، ولهذا الحادث الفريد المجيد معان من الدعوة النبوية التي قامت على جلجلة الوحي ويقظة الضمير، وانتصرت بقوة الإيمان وعبقرية الجنس، وانتشرت بوحدة العقيدة والفكرة والهوى والألم، فأن السبب الأول في نجاح الدعوة الكبرى إنما يرجع إلى يقظة الحس العربي واستعداده للكمال الروحي والاجتماعي في زمن البعثة، كما تتيقظ الأرض وتستعد للتجدد والأثمار في زمن الربيع، ومحنة فلسطين على فداحتها لو حدثت في غير هذا الوقت لمرت على مشاعر العالم الإسلامي كما تمر الريح العَصوف بالصخور الصم في الجبل، أو بالجذور الميتة في الغابة، وهل مأساة فلسطين إلا فصل من مأساة الأندلس؟ ومع ذلك حدثت تلك على مسمع الدول العربية والإسلامية فلم تثر لمحنتها أمة، ولم تتفق على نصرتها كلمة؛ وانقطع أنين الأندلس الشهيدة على فنون شتَّى من عذاب الجسم والروح، والمسلمون والعرب غافون من خدَر الذل والاستكانة لا يحفلون بالوجود ولا يشعرون بالزمن، فلو كان الألم وحده مغنياً في أيقاظ الشعور وتأليف القلوب وجمع الأيدي، لكانت هذه النكبة وحدها حرية بتوحيد الأشتات وبعث الأموات وتناصر الأخوة.
أريد أن أقول: إن هبَّة العرب والمسلمين لنجدة فلسطين إنما انبعثت عن حياة جديدة، كانت فلسطين مظهراً لها لا سبباً فيها؛ وهذا هو الأمر الخطير الذي ينبغي لخصومنا أن يحسبوا حسابه ويتدبروا عواقبه، فأن فلسطين نفسها ما كانت تستطيع بفقرها وقلتها أن تنازل اليهود وهم أغنى الشعوب، وتصاول الإنجليز وهم أقوى الدول، لولا هذه الحياة الجديدة، وصحوة العرب ليست كصحوة غيرهم من الأجناس، فقد صحوا صحوتهم الأولى فملكوا الأرض والسماء، وخلَفوا الرسل والأنبياء، وقادوا العقول والأهواء، ولا يدري إلا الله ماذا يفعلون في هذه الصحوة الأخرى.
في الساعة الخامسة من مساء يوم الجمعة الماضي اجتمع في مؤتمر القاهرة البرلماني المغرب ومصر وفلسطين وسورية ولبنان واليمن والعراق وإيران والهند والصين ويوغسلافيا وعرب الهجر للدفاع عن فلسطين، فكان هذا الحشد الحاشد في لغة الحرب تعبئة عامة لقوَى العروبة والإسلام ذياداً عن جزء عزيز من أجزاء وطنهما الأكبر، دهمه المستعمر بالقوة، واقتحمه المستثمر بالحيلة، فوقف يدافعهما عن قُوتِه وعن سكنه، ولا وزَر إلا الحق، ولا عُدة إلا الصبر، ولا سبيل إلا التضحية، أجل عبأت العروبة قواها بعد أن سألت إنجلترا الحق فلم تعط، وناشدتها العدل فلم تجب، وأهابت بضمير الإنسانية في قاعة العصبة، ودار البرلمان، وإدارات الصحف، فلم تجد إلا طمعاً ختم على الأسماع، وهوى غشُّى على الأفئدة، وسياسة قامت على المقايضة والمقارضة بين القوى والقوى على حساب المخدوع والضعيف.
لقد بلغت القضية الفلسطينية اليوم الحد الفصل، فهيهات يغني الجدال والمطال والخديعة، كانت فلسطين قبل هذا المؤتمر تجاهد العدو وحدها بالاستبسال والمصابرة، وأخواتها في الشرق والغرب لا يمدونها إلا بأسلحة العجز من كلام ودموع، فلما رأوا أن حقهم يميته القول، وباطل غيرهم يحيه الفعل، جمعوا أمرهم على الجد، وطووا قلوبهم على العمل، وقالت مصر على لسان نائبها وخطيبها الأستاذ علوبة باشا: «إن الحلال بيّن والحرام بيّن، ومن الخير أن تعمل الوزارة الإنجليزية على البت في مأساة طال أمده وتنوعت كوارثها، فإما اعتراف بحق المظلومين، وإما جنوح إلى باطل الصهيونيين».
وقالت العراق بلسان نائبها مولود باشا مخلص: «إن السلام لا يمكن استقراره إلا بحل عادل لمشكلة فلسطين، وإن العراق مستعدة لأي عمل لإنقاذ فلسطين».
وقالت سورية بلسان ممثلها وخطيبها الأستاذ فارس الخوري بك: «إن قيام دولة أجنبية بين نحر الأمة العربية وقلبها لا يوافق عليه العرب بحال من الأحوال، وفلسطين قلب العروبة حقاً، لأنها تتصل بمصر وشرق الأردن والعراق وشطرها الآخر: سورية».
وطلبت الهند إلى إنجلترا بلسان رئيس وفدها الأستاذ عبد الرحمن الصديقي أن تختار إما المسلمين وإما أعداء المسلمين، وقال: «إن ثمانين مليوناً من الهند على استعداد لأن يلبوا أول صوت يصدر عن القاهرة».
وقالت سائر الأمم على ألسنة وفودها مثل هذا، فلم يبق لإنجلترا حليفةِ العربة والإسلام إلا أن توازن بين ذهب الصهيونيين، وصداقة العرب والمسلمين، وتنظر إليهما في كفة الميزان فتعلم أيهما أرجح وزناً في الحرب العالمية المقبلة، وأغلى قيمة في السوق الاقتصادية العامة، وأقوى أثراً في إقرار السلم في الشرق القريب والبعيد
إن حياة إنجلترا في السلم، وشرفها في العدل، وسلطانها في الديمقراطية؛ وفلسطين كانت منذ أنشأها الله بلاءً على المعتدي وشؤماً على الظالم، وقد التقى عندها الغرب والشرق مرة في عهد عمر، ومرة في عهد صلاح الدين، فكانت العاقبة في كلتا المرتين غروب الغرب وشروق الشرق، فهل يريد تشمبرلن رسول السلام ونصير الإنسانية أن يجمعهما على ثراها مرة ثالثة!
________________
مجلة الرسالة، العدد (275).