خلق الله تعالى الخلق وفطرهم على أمور، منها أن الحياة الإنسانية لا بد لها من نظام تُسيّر به، وتمشي عليه، وجعل هذا مركوزاً في الحيوانات، فالغابة لها حاكم وهو الأسد، وأسراب الطير في السماء لها قائد يوجهها فتتبعه، وعالم النمل معلوم نظامه وترتيباته.
وإذا كان هذا معهوداً ومعلوماً بالضرورة من حياة الكائنات، فكيف بحياة الإنسان؟ ثم كيف به في ظلال النظام الإسلامي؛ عقيدة وشريعة، وأخلاقاً ونظاماً، ودستوراً للحياة يبسط سلطانه فيها على كل شيء؟!
الله أرسل الأنبياء ليقيموا حكمه في الأرض تاركين الناس وما يدينون غير مُكرهين على اعتناق شيء
لقد نزل القرآن الكريم وبيَّنت السُّنة النبوية معالم الاجتماع البشري الذي لا يمكن أن نتصوره بغير نظام يدبّر حياة الناس، ويقيم مصالحهم، ويُسيّر أمورهم، ويدفع عنهم ما يضرهم، ولهذا كان تعريف ابن عقيل للسياسة فقال: «السِّيَاسَةُ: مَا كَانَ فِعْلاً يَكُونُ مَعَهُ النَّاسُ أَقْرَبَ إلَى الصَّلَاحِ، وَأَبْعَدَ عَنْ الْفَسَادِ، وَإِنْ لَمْ يَضَعْهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا نَزَلَ بِهِ وَحْيٌ»(1).
التأكيد على وجوب «الحُكْم» رغم أنه فطرة
ورغم أن النصوص الشرعية لا تؤكد كثيراً ما تدعو إليه النحيزة السوية وما فُطر عليه الناس؛ فإن الفقهاء أكدوا وجوب إقامة الحكم أو نصب الحاكم؛ فهذا الماوردي يقول: «الْإِمَامَةُ: مَوْضُوعَةٌ لِخِلَافَةِ النُّبُوَّةِ فِي حِرَاسَةِ الدِّينِ وَسِيَاسَةِ الدُّنْيَا، وَعَقْدُهَا لِمَنْ يَقُومُ بِهَا فِي الْأُمَّةِ وَاجِبٌ بِالْإِجْمَاعِ وَإِنْ شَذَّ عَنْهُمْ الْأَصَمُّ.. هَلْ الخِلَافَةُ وَاجَبَةٌ بِالشَّرْعِ أَمْ بِالْعَقْلِ؟ وَاخْتُلِفَ فِي وُجُوبِهَا: هَلْ وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ أَوْ بِالشَّرْعِ؟ فَقَالَتْ طَائِفَةٌ: وَجَبَتْ بِالْعَقْلِ لِمَا فِي طِبَاعِ الْعُقَلَاءِ مِنْ التَّسْلِيمِ لِزَعِيمٍ يَمْنَعُهُمْ مِنْ التَّظَالُمِ، وَيَفْصِلُ بَيْنَهُمْ فِي التَّنَازُعِ وَالتَّخَاصُمِ، وَلَوْلَا الْوُلَاةُ لَكَانُوا فَوْضَى مُهْمَلِينَ، وَهَمَجاً مُضَاعِينَ»(2).
وما هذا الكلام إلا من أجل تشكيك البعض في أن وحي السماء قد نزل للحكم والسيادة، وفي عصرنا الحديث رُفض هذا رفضاً قاطعاً على لسان علي عبدالرازق وغيره، فكان لا بد من بيان ذلك والاستدلال له.
الأنبياء جاؤوا بالحكم وللسيادة بالشرع
أرسل الله تعالى الأنبياء ليقيموا حكمه في الأرض، ويبسطوا سلطان ما أوحى إليهم به على الخلق، تاركين الناس وما يدينون، غير مُكرهين لهم على اعتناق شيء أو الإيمان بشيء، وهذا لا يخص داود، وسليمان فقط، حين قال الله له: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) (ص: 26)، وقال عن سليمان: (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (النمل: 16)، أي ورثه في الحكم والعلم.
الأمة المسلمة تمتعت بـ«الحكم الرشيد» عقوداً من الزمن في عهد النبوة والخلافة الراشدة إلى عام 40هـ
وإنما المتأمل في سير الأنبياء كما ذكرها القرآن الكريم يجدها عامة في كل نبي، ففي التوراة مثلاً قال الله عنها: (إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44)، وهكذا حتى ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، وأمره بأن يحكم بين الناس بما أنزل إليه.
ومن ذلك قوله تعالى: (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة: 48)، وقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49)، وقوله عز وجل: (سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (المائدة: 42)، والآيات في هذا كثيرة.
الحكم الرشيد في تاريخنا
تمتعت الأمة المسلمة بـ«الحكم الرشيد» عقوداً من الزمان، في عهد النبوة والخلافة الراشدة إلى عام 40هـ، وبعدها لا يمكن أن نصف الحكم بـ«الرشيد»؛ لأنه فقد ركناً من أركانه؛ وهو «الشورى» التي توارت مع توريث الحكم، وهو ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله، كما يرويه حذيفة بن اليمان، قال: كنّا قُعوداً في المسجدِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان بَشيرٌ رَجُلاً يَكُفُّ حديثَه، فجاء أبو ثَعلَبةَ الخُشَنيُّ، فقال: يا بَشيرُ بنَ سعدٍ، أتَحفَظُ حديثَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم في الأُمَراءِ؟ فقال حُذَيفةُ: أنا أحفَظُ خُطبَتَه، فجَلَسَ أبو ثَعلَبةَ، فقال حُذَيفةُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: «تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكاً عاضّاً، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكاً جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ»(3).
مع ضعف الخلافة العثمانية تمكَّن المستعمِر من إحلال القوانين الغربية محل الشريعة الإسلامية
ونحن اليوم على وشك انتهاء الحكم الجبري بعد انتهاء الملك العاضّ، وهذا يجعلنا نؤكد أن «الحكم الرشيد» هو معنى يوافق مصطلح «على منهاج النبوة»؛ حيث إن منهاج النبوة الموصوف بالرُّشْد هو ما كان قائماً على الاختيار الحر من الرعية وبخاصة من بعد النبي صلى الله عليه وسلم، ويتأسس على تحقيق مصالح العباد بحراسة الدين وسياسة الدنيا به كما قال الماوردي.
الغزوة الاستعمارية
ومع ضعف الخلافة العثمانية -التي يمر على سقوطها اليوم مائة عام- تمكن المستعمر من بلادنا، وغيّر وبدّل، وحوّل المفاهيم وحرّفها، وغيّر الهوية الإسلامية، بإحلال القوانين الغربية محل الشريعة الإسلامية، وإحلال اللغات الغربية محل اللغة العربية، وصبّ العالم الإسلامي في قالب العالم الغربي الذي يقوم على المركزية والصراعية؛ حيث تسعى لفرض نموذجها على العالم وإقصاء النماذج الأخرى على عكس ما يفعله الإسلام حين يحكم فيتيح الساحة للجميع ويقدر الجميع ويكفل حق الجميع في التعبد والحياة في ظلال الدولة الإسلامية بقيمها وأخلاقها.
ونتيجة لهذا التغيير والتبديل، وتَساوُقِ عدد ليس قليلاً ممن يسمون أنفسهم «مثقفين»، وتمكين الأنظمة لهم في المؤسسات الثقافية والإعلامية حدث هناك تغيير في قناعات المسلمين وثقافتهم، كما أحدث هذا إغراء لمثقفين من المفترض أن يكونوا أصلاء عقلاء فأصبحوا يسيرون في هذا الركاب؛ إظهاراً لثقافيتهم وتنويريتهم، وأنهم يتبنون -بزعمهم- إسلاماً متنوراً ووسطياً وواعياً بما انعكس سلباً على تشكيل العقل المسلم؛ استلاباً حضارياً، وتشكيلاً غربياً فكرياً، وصباً لهذه الأنماط من الفكر والعقل في قالب النموذج الغربي!
المقاصد التي يحققها النظام السياسي الإسلامي تدور مع حراسة الدين وتستهدف سياسة الدنيا به
ومن ضمن هذه المفاهيم التي تعرضت لهذا التشويه والتغيير كل ما يتعلق بـ«الحكم الإسلامي»، و«النظام السياسي الإسلامي»، وأنه لا نظام سياسياً في الإسلام، ولا نظام حكم إسلامياً، لا سيما بعد سقوط أو إسقاط الخلافة الإسلامية، وأصبح كل من ينادي بالحكم الإسلامي أو يرى أن الإسلام يتضمن نظماً إسلامية ومنها «نظام الحكم في الإسلام» أو «النظام السياسي الإسلامي»، أصبح موضع شبهة وتندّر، ومحلاً للوصف بالتخلف والجهل والرجعية!
الواجب الآن نحو الحكم الرشيد
لا نملك أمام هذا التشويه الغربي، والهجوم الاستشراقي على مفاهيمنا الإسلامية ومصطلحاتنا الشرعية لا سيما بعد أن أوشك «الحكم الجبري» على الرحيل، إلا أن ندحض هذا الغزو، ونكشف عواره، ونبين ضلاله، ونبرز ما عندنا من معالم حقيقية للنظام السياسي الإسلامي، وأنه نظام بحق يغاير بقية الأنظمة عبر تاريخها، وشاهدُ ذلك أن هذا النظام حَكَم وله تجربة استمرت 40 عاماً، وكان ما بعدها مقارباً له لولا التوريث فقط، فنحن إذن لا نتكلم في الهواء، أو من الأبراج العالية، وإنما نتحدث من منطلق عقَدي، ونصدر عن تجربة عملية عاشت الدنيا معها كلَّ قيم الحق والعدل والخير والجمال!
وإن المقاصد التي يحققها النظام السياسي الإسلامي أو نظام الحكم في الإسلام لا يمكن أن يقف أمامها أحد، ولا أن ينكرها أحد؛ إذ إنها تدور مع حراسة الدين، وتستهدف سياسة الدنيا به، وإذا قلنا: الدِّين؛ فهو من عند الله تعالى، والله يعلم من خلق، وهو لطيف بعباده، وإذا قلنا: سياسة الدنيا به؛ فهي سياسة تحقق مقاصد الشرع، وترعى مصالح الناس.
____________________________
(1) الطرق الحكمية في السياسة الشرعية لابن القيم: 12. دار البيان.
(2) الأحكام السلطانية: 15، دار الحديث، القاهرة.
(3) أخرجه أحمد (18406) واللفظ له، والطيالسي (439)، والبزار (2796)، وقال شعيب الأرناؤوط: إسناده حسن.