إن مما يميزنا نحن أهل المغرب العربي أننا لا نقول: شهر رمضان مجردًا، بل نعتبره إنسانًا ذا مكانة عالية، فنقول: «سيدنا رمضان».
وهذا يظهر التقدير الكبير لهذا الشهر الفضيل من جميع فئات المجتمع.
فالنساء لهن طقوس خاصة قبل دخول الشهر؛ إذ يقمن باستقباله عن طريق التجديد والتزيين؛ وذلك يتمثل في:
– صبغ البيت صباغة جديدة بدلاً من القديمة التي ظهر عليها انطفاء البهجة والجمال، ولا تستدعي النساء عمالاً للقيام بذلك، بل يقمن بالصباغة بأنفسهن، ويتكلفن تغيير ونقل أثاث البيت من مكانه لصبغ الحوائط والجدران.
– شراء أواني طبخ جديدة بدلاً من المواعين القديمة، فإذا كان البيت يتم تزيينه بالصباغة، فللمطبخ أمر زائد عن تجديد حوائطه، وهو شراء أوانٍ جديدة، ويرون أن ذلك من حسن استقبال الشهر، وقد يمثل هذا الأمر إثقالاً على ميزانيات البيوت ومصاريفها، لكن المرأة تتدبر أمرها لشراء الأواني الجديدة إكرامًا لسيدنا رمضان.
– تنوع المائدة الرمضانية؛ إذ إن الوجبة الجزائرية في رمضان تتنوع الأصناف فيها، ويكاد تكون «الحريرة» و«البوراك» ثابتًا من ثوابت المائدة الجزائرية الرمضانية، مع المخبوزات المتنوعة؛ إذ إن الخبز لا يستغني عنه الجزائري حتى إنه قد يأكل به الأرز والمعكرونة، مع التفنن في أنواع السلطات، ويأتي اللحم الحلو بالبرقوق والمشمش المجففين في بعض المناطق.
العادة أن تتم قراءة «موطأ» الإمام مالك و«صحيح» البخاري في المساجد
– الحلويات، تتفنن المرأة الجزائرية في أنواع الحلويات و«القاطوهات»، فالزلابية والقطايف والشامية (قلب اللوز) مع الشاي من لوازم السهرات الرمضانية؛ فإذا اقترب الشهر من الاكتمال تصنع السيدات المعجنات الحلوة (القاطو) لوضعها أمام الزوار المهنين بعيد الفطر، إلى جانب إهداء بعضهن بعضاً لما صنعنه بأيديهن.
أما الرجال فأحوالهم مع سيدنا رمضان تتبدل إلى خير حال؛ فتجد من لا يواظب على الصلاة أو الذي يكاد لا يصلي طوال العام يحمل معه عباءته ليصلي في أي مكان لحقته فيه الصلاة إن كان يلبس ملابس يستحيي أن يصلي فيها كسروال قصير أو ما شابه.
وترى مدمني الخمر طوال العام قبل دخول الشهر يمنعون أنفسهم عن احتساء الشراب إكرامًا لهذا الشهر، وطمعًا في نوال المغفرة من الله تعالى، وتدريبًا لهم عن إمكانية الإقلاع عن إدمان تلك المسكرات.
ولا ترى مفطرًا يجاهر بفطره في الشارع بالأكل أو التدخين؛ فحياؤه يمنعه من ذلك، والمجتمع لا يقبل أن يرى ذلك من الأساس.
ومما جرت به العادة أن تتم قراءة موطأ الإمام مالك وصحيح البخاري في المساجد، ويشارك في ذلك الأئمة والعلماء وطلبة العلم والمصلون؛ فالكل يقرأ بالتناوب حديثًا أو حديثين، وأحيانًا بابًا أو بابين حسب حجم الباب، وقد يقرأ الإمام فقط والباقون يستمعون إليه، وقد يعملون على ختم «الموطأ» أو «صحيح» البخاري بعد البدء فيهما، ولا يتوقفون بانتهاء سيدنا رمضان، يقيمون احتفالاً بالختم يحضره العلماء والأئمة والمصلون.
«الحريرة» و«البوراك» من ثوابت المائدة الجزائرية خلال الشهر الكريم
والتراويح عندنا في الجزائر نصليها 13 (ثلاث عشرة) ركعة، وقد يصلي إمام واحد، أو يتبادل أكثر من إمام، ولا يقرأ إمام من مصحف في يده أو موضوعًا على مِرفع أمامه، فلا بد للإمام أن يقرأ من حافظته، ويجتهد الأئمة أن يختموا القرآن في ليلة السابع والعشرين، ويقسموا الجزء القرآني بين التراويح والتهجد حتى يتمكنوا من الختم؛ فالغالب أنهم يقرؤون حزبًا في التراويح، وحزبًا أو أكثر في التهجد.
ومن عادة أهل الجزائر أنهم في ليلة السابع والعشرين يجمعون بعض الأموال فيما بينهم ويضعونها بين يدي الإمام ليرى فيها رأيه وليضعها في احتياجات المسجد، أو رواتب لمعلمي القرآن في المدارس القرآنية التابعة للمساجد.
وعادة الجزائريين أنهم لا يسهرون ليلاً وينامون باكرًا؛ لذا تجد ليلهم هادئًا، يملؤه السكون، لكن في سيدنا رمضان تدب الحياة في الليل؛ إذ يخرج الرجال بعد صلاة التراويح لمجالسة أصدقائهم في المقاهي أو الحدائق العامة، أو لشراء بعض احتياجات البيوت.
وتزداد الزحمة في الليل على غير العادة كلما اقترب الشهر على نهايته؛ إذ تخرج العائلات لشراء ملابس العيد لأطفالها، وقد تعمل بعض الأسر على تعجيل الشراء قبل دخول الشهر أو في أوله حتى تكون هناك فسحة في الاختيار، ولكي لا يجعلوا الأيام الفضيلة محل ليلة القدر للشراء بدلاً من أن تكون خالصة للعبادة.
ومن العادة أنهم يشترون لباسين للأطفال ليعيد فيهما في أول يوم العيد وثاني يوم، ولا يكتفون بلباس واحد للعيد، إلا من اضطرته الظروف لذلك.
والزيارات العائلية تنشط في ليالي رمضان؛ إذ يجتمع الأهل لزيارة الآباء والأمهات، مع تناول الحلوى والشاي أو القهوة وبعض المكسرات، ويلعب أطفال العائلة معًا.
جمع الأموال يتم في ليلة السابع والعشرين لتحقيق هذا الغرض
هذه الأجواء الرمضانية شاهدتها في غرب الجزائر إذ أنا ابنة الغرب الجزائري، لكن الجزائر بلد شاسع أشبه بالقارة، وفيه تنوعات كبيرة جدًّا؛ فالشرق والوسط والغرب والتل والهضاب والصحراء لكل منطقة سماتها وروحها وتراثها التي تنفرد به وتتميز.
لذا فما سلطت عليه الضوء مما يحدث عندنا في رمضان قد تجد زيادة عنه أو نقصانًا في أماكن أخرى من المناطق الجزائرية.
لكن الجامع في ذلك كله أن الإيمان يبحث عن القلوب ليعمرها في ذلك الشهر، وينفض عنها غبار الغفلة، والزينة تحل في البيوت لتتغير عما كانت عليه إلى أبهى صورة وأجمل منظر.
فرمضاننا كما هو رمضان بلاد العرب والمسلمين قاطبة إيمان وزينة، لكن الفارق فقط يكمن في اختلاف طرق الاستقبال والتوديع، واختلاف المذاهب الفقهية واختياراتها، واتباع كل منطقة عربية أو مسلمة لمذهب فقهي معين، وتباين الموائد والأطباق على المائدة الرمضانية.
لكن الصبغة الرمضانية تلون كل البلدان العربية والمسلمة بصبغتها لتكون الأمة الواحدة مشتركة في الأسس الإيمانية والاعتقادية مع تباين في العادات والتقاليد التي هي عنوان الثراء في هذه الأمة الواحدة.