سعد إدريس حلاوة
(أحدثكم من الآخرة!!…)
أنا قلبي كان شخشيخة أصبح جرس
جلجلت بيه.. صحيوا الخدم والحرس
أنا المهرج.. قمتو ليه؟.. خفتوا ليه؟
لا في إيدي سيف ولا تحت مني فرس!
لا أعرف لماذا أردّد هذه الرباعية لزجّال شهير كان متيّما بالزعيم الملهم صانع الهزائم الكبرى والأكاذيب العظمى. صحيح أنه اكتأب بعد الوكسة، ولكن افتتانه به وصل حدا غير مسبوق، فكم كتب له الأغنيات التي تمجّده وترفعه أحيانا فوق البشر، وتجعله حين يفوت على الصحراء الجرداء تتحول إلى واحة خضراء، ولكن الفاجعة في 67 جعلته شخصا آخر.. أما هذه الرباعية فكنت أحفظها عن ظهر قلب، وأردّدها بيني وبين نفسي، وأسأل: لماذا يخاف الزعيم الملهم من الناس ومن كلامهم مع أنهم بسطاء لا يملكون قوة عسكرية تهدّد كرسيّه أو تهزّ نظامه الحديدي الخرساني، وهو يملك كل شيء، وأجهزة تحصي على الناس أنفاسهم؟
حتى اليوم مازال بعض الناس مفتونون به ويدافعون عن هزائمه وجرائمه! وفيهم للأسف ناس محترمون. أكثرية المفتونين أفادوا من زمانه، وتجاهلوا قهر الشعب، وحرمانه من الحرية والكرامة والأمل!
من أكون أنا في عالم لا قيمة فيه للإنسان؟ فرحتُ يوم عبرتْ قواتنا بقيادة العسكري المحترف إلى ضفة القناة الشرقية، ورأيت أسرى العدو على شاشة التلفزيون، ورأيت أن المستقبل سيكون مضيئا، ولكن جاءت زيارة القدس لتطفئ الماضي والحاضر والمستقبل، وتلقي بدماء الشهداء في حجر الإرهابيين المعتدين، وتمنح الغزاة القتلة وضعا رسميا لم يحلموا به وهم في عنفوان قوتهم وسطوتهم.
قال لي عمي العمدة حفناوي حلاوة:
– صار عرفان الحمّار من كبار البلد، ولديه ثروة أكبر من كل عائلتك يا سعد. يجب أن يرفع يديه إلى السماء ويدعو للانفتاح ليلا ونهارا.
صمتُّ ولم أتكلم.. فقال:
– تاجر الخردة صار أهم من علماء الذرة في زمن الصلح مع الأعداء. انفتحت له الأبواب، مع أنه مجرد صبي للحرامية الكبار!
لم أنطق…! فواصل كلامه:
– هناك من عَبَر.. وهناك من هَبَر!
ثم اتجه إليّ بالسؤال كأنه يلح أن أتكلم، وهو يعلم أن الصمت في عائلتنا نوع من احترام الكبار أحيانا:
– هل تتصور يا سعد أن عرفان الحمّار يمكن أن يكون عمدة؟
قلت له:
– من حقه أن يكون عمدة، فهو مواطن مثلنا يا عمي. لكن العمودية باتت مجرد صفة لشخص لا يريدها.
سألني:
– كيف؟
– الناس ليسوا في احتياج للعمد هذا الزمان. إنهم يذهبون إلى الشرطة مباشرة أو يأخذون حقوقهم بأيديهم. العمودية عبء على العمد. يتحملون مسئولية كبيرة مقابل خمسة جنيهات في الشهر، ويتم استدعاؤهم في الحوادث والملمات. إنها صفة بغير موصوف يا عمي!
– ولكنها سلطة ووجاهة وميراث. أتجهل ذلك؟
– من يريد السلطة والوجاهة والميراث فليتحمل المسئولية. وإن كان العاقل يهتم بمصالحه الخاصة في أيام انقلبت فيها الأوضاع، وصار السباك أكثر دخلا من أستاذ الجامعة.
– هل تعرف كم يبلغ مرتب أستاذ الجامعة حتى تقول هذا الكلام؟
– لا أعرف تماما، ولكني متأكد أن السباك في ثلاث ساعات يحصل على عشرين جنيها، والأستاذ يحصل في شهر على ستين جنيها تقريبا!
سكت العمدة وراح يتأمل ملامحي، وسألني:
– يبدو أنك غاضب من شيء خطير يا سعد!
قلت له وأن أطوي صدري على قلب يبكي دما:
– أما تسمع يا عمي أخبار المعاهدة المذلة، وبعضهم يصفها في لهجة مهذبة بالإذعان؟
– يا بني.. المعاهدات تكتب وفقا للواقع على الأرض. تخلى عنك العرب، وأعلنت أن حرب رمضان آخر الحروب، والغرب وفي مقدمته أميركا يغدق على الغزاة القتلة أحدث الأسلحة والاختراعات والأموال!
– أين الإرادة التي جعلتنا نصنع العبور؟
في محاولة ساخرة للضحك:
– مع الجيل الجديد إن شاء الله،
وطلب العمدة الغداء، وأصرّ أن أتناول الطعام معه.
***
لم أر مصطفي رضا مكتئبا مثلما رأيته هذا اليوم. كان وجهه مدخنة قمينة طوب مسودة وتنفث دخانا كثيفا، ويمضي في الطريق، وكأنه لا يرى أحدا. ناديته، وعندما اقترب مني حاولت أن أخرجه من حالته. قلت له مبتسما:
– كأنها ثريا إمبراطورة إيران، وليست مجرد كاتبة ناشئة!
نظر إلي وراح يستوعب ما أقول، فعاجلته:
– روميو عرف أن جولييت تزوجت عجوزا، وصالحته بكلمة تهدئة!
حاول أن يتكلم بصوت واهن:
– يا أخي لست روميو ولا هي جولييت، وكل شيء قسمة ونصيب.
– هذا هو الكلام المعقول. هداك الله، لا تبتعد عن القرية، وابحث عن فتاة فلاحة تفهمك، وتهتم بك، ولو كان أبوها عرفة الحمّار!
ابتسم مضطرا، وقال:
– إنها تجربة. والتجارب مفيدة، والمكتوب على الجبين لا بد أن تراه العين.
ياه! كم أنت حالم يا مصطفى، وتتأثر بالروايات الرومانتيكية في زمن فرض فيه تجار الخردة قانونهم. إنهم ضرورة في حياتنا لنتخلص من الزوائد، والأحوال المتغيرة جعلتهم الأغنى، ففرضوا قانونهم. إني أتعاطف معك يا مصطفى، فالحلم جميل، وجماله فريد، ولكنه يبقى حلما. عليك يا مصطفى أن تعيش الواقع، وترى ما يجري فيه. لا يجوز أن تنشغل بثريا العبد وعشاقها وأزواجها، علمت أنها تزوجت عرفيا بعد رئيس التحرير أكثر من مرة ولم تعمر، ليتك يا مصطفى تنسى الأيام الكالحة التي تنبئ عن مستقبل غامض وشائه، تنام فيه على سرير واحد مع عدوّك، وقاتلِ أهلك وأشقائك، تزوج فتاة تحبك حبا حقيقيا ولا تخدعك. ألا تعلم يا مصطفى أن سفير العدوّ سيأتي ويقف في القصر الجمهوري أمام رئيس أكبر دولة عربية ليتم اعتماده أول سفير للقتلة، ومازالت بقايا قواتهم في سيناء؟
آه يا مصطفى! أنت أقرب الأصدقاء إليّ، صحيح أنك تصغرني بشهور قليلة، من يرانا يتصور أني سعد حلاوة المولود في أجهور يوم2 مارس 1947م أكبر منك بسنوات، فقد نبتت شعيرات بيضاء قليلة في رأسي، وأنا في عز الشباب، ولم أتزوج، ولم تشغلني زوجة، ولا أولاد.. يشغلني أمر أخوتي وأختي الوحيدة. أريد لها الستر والاستقرار، وحياة أسرية هانئة مع زوجها، ليس فيها حروب النسوة المتفرنجات الفاشلات، أقول لها: تذكري ما كانت تفعله أمك مع أبيك. جعلته حياتها وروحها ومستقبلها. تسكت حين يغضب، وتواسيه حين يحزن، وتخفّف عنه حين يزداد عليه الحمل. لا تتحدث عن نفسها وعنه بوصفهما كائنين منفصلين، وتراه معها كيانا واحدا، لا تقول أبدا أنا أو هو، تتحدث دائما بصيغة نحن. أو تشير إليه بوصفه صاحب القرار في البيت والغيط. وما زالت حتى اليوم تربينا وتعيش على ذكراه، وتروي سيرته، والحكايات والنوادر التي كانت بينهما، وتدعو الله أن تلتقي به في الجنة. ثريا العبد لا تدعو أن تلتقي بواحد من أزواجها السرّيين في الجنة يا مصطفى. إنها تدعو لشيء آخر.
لو قلت لك الحقيقة يوم استطلعت رأيي في الزواج منها ربما كرهتني، فالحقيقة أحيانا تكون صادمة، ومن يعيشون في الأحلام يرفضونها ولو كانوا يعلمون أنها الحقيقة. لابد أن أباك وأمك، سيسعدان حين تختار واحدة قريبة منهما، تعرف لغتهما وطباعهما وعاداتهما، ونظام حياتهما.
لم أشأ أن أتحدث مع مصطفى عن واقعة الكاتب الأسطورة يونس سليم مع ثريا، فقد تناقلتها الأفواه في النادي الثقافي والمقهى الشعبي بشارع الصحافة، وتجمعات الأدباء الشبان والكبار، وبالتأكيد فمصطفى لا يريد سماع السيرة، ولا يود أن يتذكر ثريا من الأساس بعد أن كان مفتونا بكل ما يتعلق بها، ولعل اكتئابه الذي حاولت أن أبعده عنه مازال يرسخ في نفسه كراهية لنوع من النساء، وهو على كل حال قد هبط اضطراريا في مينائه الطبيعي، ليبدأ من جديد..
***
عارضت اتفاقات الإذعان القوى السياسية الحقيقية في البلاد. واشتعلت المعارضة بعد عودة الرئيس من كامب ديفيد في الولايات المتحدة واستقالة وزيرين للخارجية بالتتابع في وقت قصير احتجاجا على انفراد الرئيس وتسرعه باتخاذ القرار، مما أعطى للعدو فرصة تفريغ المبادرة من قوة الدفع التي أحدثتها في البداية. ثم لجأ اليهود كالعادة إلى المماطلة والتسويف وطلب المزيد من التنازلات. مثلهم الأعلى شايلوك. كانت الحركة الإسلامية أقوى في معارضتها من بقية القوى الأخرى. فهي الأكثر عددا، ومرجعيتها الإسلامية جعلتها ترى أن الصلح الذي تم توقيعه مجرد إذعان لاستلام سيناء ناقصة السيادة، دون التوصل إلى حل لمشكلات الفلسطينيين والقدس واحتلال الجولان، وفي المقابل يحظى الغزاة اليهود بعلاقات سياسية واقتصادية مع أكبر دولة عربية، وضمان عدم تدخل مصر إلى جانب الدول العربية حين يعتدون عليها، وكثرت الأقاويل في الصحف والإذاعات الأجنبية عن بنود سرية في الاتفاقات لم يعلن عنها…!
قالت لي قريبتي سلوى المصري وهي صحفية في جريدة كبرى عندما رأيتها وهي توشك على مغادرة النادي الثقافي:
– إن الولايات المتحدة والكيان الصهيوني، وأجهزة النظام عندنا، عقدوا اجتماعات سرية لمكافحة المعارضة الإسلامية، التي تعارض الاتفاقات، وتحدثت بعض المصادر أن هناك مكافحة للإسلام ذاته تحت عنوان “تجفيف المنابع” تشمل التعليم والثقافة والإعلام والفنون المختلفة.
سألتها:
– ماذا يعني ذلك؟
– يعني أن المتدينين، أو من يطالبون بمنهج الإسلام في الحياة يُمنعون من الوظائف المؤثرة في التعليم والثقافة والإعلام، ويحرم أبناؤهم من التجنيد في القوات المسلحة، أو الالتحاق بالسلك الدبلوماسي أو النيابة أو القضاء، أو الشرطة. بالإضافة إلى تشهير مباشر أو غير مباشر بالدين والمتدينين، وضرورة فصل الدين عن الحياة!
سألتها بسذاجة:
– أليس ذلك مخالفا للدستور؟
نظرت إلي وهي تكتم ضحكة بدت بوادرها على وجهها:
– هل هناك دستور أصلا يا سعد؟ إنه مجرد ورقة أو أوراق تستخدم عندما تحتاجها السلطة، وتتناساها عندما تريد!
– ألا ترين أن اليهود الغزاة يمنحون المتدينين في الكيان الغاصب امتيازات كبيرة؟
تنهدت، وقالت كأنها تريد أن تمضي مسرعة لأمر ما:
– اليهود أقاموا دولتهم على الدين، والعلمانيون هناك لا يستطيعون انتقاد اليهودية، كما يفعل العلمانيون عندنا الذين يرون الإسلام تخلفا وظلاما، وتتاح لهم الفرصة كاملة ليعبروا عن احتقارهم لدين الأمة، ولا يتاح لغيرهم أن يرد عليهم.
وسكتت قليلا، ثم أضافت:
– القوم عندنا يتصورون أن المعاهدات يمكن أن تحميهم من العدوان اليهودي، فيعملون من أجل القضاء على كل ما يستفز الغزاة، ولو كان مجرد كلام في الهواء مثل كلام المعارضة الشكلية عندنا!
شعرتُ أني أعطّلها عن رغبتها في الانطلاق إلى مهمتها، فقلت لها:
– سؤال أخير: ألا تبالغين في كلامك؟
– أبدا، في الكنيست قامت الإرهابية جيئولا كوهين بتمزيق المعاهدة، وألقت بها في وجه الإرهابي مناحم بيجين زعيمها في عصابة الأرجون. هل اعتقلها أو حاكمها؟ أبدا.
– ما ذا فعل؟
– ساوم الطرف المصري بما قالته، وطلب مزيدا من التنازلات!
– لكنهم عندنا يطاردون الإسلاميين المعارضين وغير المعارضين..
– الإسلاميون مرفوضون من العدو والغرب، لأنهم القوة الوحيدة التي تزعجهم. تأمل ما جرى لهم مذ بدأت الانقلابات في سورية عام 1949. السجون ملأي بهم، والإعدامات نصيب أعداد غير قليلة منهم، والاشتباكات الإعلامية معهم بمناسبة وغير مناسبة، والحملات الفكرية ضدهم لا تتوقف، وأرجح أن يكون ذلك مطلبا من اليهود الغزاة!
– وما السبب الذي جعلك ترجحين ذلك؟
– السبب بسيط: الإسلام يرفض التفريط في الأوطان والمقدسات، والعلمانيون والانقلابيون فرطوا في كل شيء، وانهزموا على كل الجبهات هزائم منكرة غير مسبوقة في التاريخ!
ثم التفتت إليّ، وقالت:
– يا أخي، إن اليهود سيرسلون إلينا بعد أيام سفيرًا يوصف بأنه أشد تعصبًا من قادته.. وعليك يا سعد أن تستقبله بالطبل البلدي والمزمار الشعبي، فالقوم عندنا يقولون إن السلام سيأتي بالرخاء من ذيله! ولوحت سلوى بيدها مودعة، وتركتني ومضت..
***
طلبني عمي العمدة حفناوي حلاوة، وفي ابتسامة أعرف مغزاها حين يطلب مني شيئا خاصا:
– كم عمرك الآن يا سعد؟
– لماذا يا عمي؟ ألا تعرفه؟
– أريد أن أسمع منك؟
– ثلاثة وثلاثون عامًا!
أضاء وجهه، وضحكت عيناه:
– مثلك الآن لديه أطفال في الصف الرابع أو الخامس أو السادس.
– أعلم، ولكل شيء أوان!
– آن الأوان أن نفرح بك، فالعمر يجري، وكفى ما قدمته لأخوتك الذين تزوج معظمهم وأنجبوا، وصرت عمًا وخالًا لهم!
لم أملك إلا أن أضحك، وأردفت:
– يا عمي، لقد كان الواجب يفرض عليّ أن أعمل وأقود سفينة الأسرة إلى بر الأمان!
– على كل لابد أن تكمل نصف دينك.
– إن شاء الله حين أجد بنت الحلال.
– عليك أن تعلن النية، وعلينا أن نوجدها!
– بعد أن يتخرج أخي الأصغر، ستكون الأمور كما تحبّ بإذن الله.
***
يتصور بعض الناس أنني لا أفكر من أجل نفسي، وهذا غير صحيح. أتمنى أن أكون رب أسرة ولي أطفال، واجباتي تفرض علي أن أؤجل بعض ما أريد لنفسي، وأفكر في هموم الناس والبلد فلهم علي حق أيضا. ما استحق أن يولد من عاش لنفسه. صحيح أننا في عصر غريب. يمتلئ بالأنانية والقبح، شعاره: اخطف واجر، تذكرت الآن ما يضحكني ويبكيني، سأحكيه لكم، فقد خطفت فتاة المدينة أو زوجة الميني جيب ثروة عرفان الحمار بموجب توكيل رسمي حين هدته الشيخوخة، وأقعده المرض. ولم تترك له إلا البيت (القصر) وقليلا من الممتلكات والأموال. اخطف واجر شعار المرحلة غير المعلن، وهذا لا يسوّغ أن أعيش لنفسي وحدها، إني أحب بلادي ولو لم تكن لي قيمة فيها، فلست من أهل السلطة ولا قريبا منها كي تكون لي قيمة. دعك من منصب العمودية الذي صار تافها، وكانت تتوارثه عائلتنا من أيام بعيدة، وهي الأيام التي عرفتْ معايير مختلفة وقيما صلبة. الزمان اختلف، والناس اختلفوا، وعرفة الحمّار أغني من عائلة حلاوة كلها، وفرض وجوده وإرادته قبل أن تخطف امرأته معظم ما يملك.
أجل! الأمر غريبّ. كل الشباب أمثالي يهتمون بأنفسهم، وينشغلون بطموحاتهم الذاتية، ولا يفكرون إلا قليلا في قضايا الوطن وشئونه، وأحيانا تجد بعضهم لا يفكر قليلا أو كثيرا، قد يجد في الأهلي والزمالك اهتمامه وسلواه، ولعله سمع بالاتحاد الاشتراكي، ولكنه لا يعلم شيئا عن المنابر أو الأحزاب التي تشكلت بعد تفكيكه.. وأنا لا أفكر في نفسي إلا قليلا، وأعطيتها لغيري سواء من أهلي أو من شعبي، وأعلم أن أحدا لا يكاد يشعر بي، بل لا يعرفني خارج قريتي أو النادي الثقافي.
يؤلمني ما يؤلم الوطن، ويوجعني ما يعانيه الشعب. وعدوه بالمن والسلوى بعد توقيع اتفاقيات الإذعان، وكان وعدا سخيفا لم يتحقق أبدا. فالأحوال بعد عامين أو ثلاثة من السلام المزعوم ما زالت هي هي لم تتغير، بل صارت أكثر سوءا، الغلاء يصعد، والتفاوت الطبقي يزداد، وقيمة العلم تتناقص، والسفير اليهودي المتعصب سيقدم أوراق اعتماده بعد أيام، وكأنك يا مصر لم تحاربي، ولم تضحي بآلاف الشهداء على امتداد ربع قرن أو أكثر، ووقّعْت للعدو شيكا على بياض!
ما الذي يجعلني أنشغل بأمور دولة بلغ سكانها قرابة ثلاثين مليونا، وأنا مجرد شخص لا قيمة له، ولا يعرفه أحد؟ يبدو أني أحمق، وساذج، وفلّاح على نياتي!
السياسة لها ناسها الذي يمكرون ويخادعون ويكذبون، ولكن مثلي لا يفهم في هذه الألاعيب، والناس في بلادي موقنون أن مهمة المواطن أن يصفق، ويقرع الطبول، وينقر الدفوف، وعليه ألا يتجاوز ذلك، فإذا تجاوز ذهب وراء الشمس، أو التقمه الحوت.. من يتخيل أن يواجه السلطة عليه أن يدفع ضريبة، وهي كما يقول صحفي ساخر من عصر الزعيم الملهم: “ضريبة ثقيلة يدفعها الإنسان إذا أجبرته الظروف على الاصطدام يوما ما بالسلطة، عندما يصطدم المواطن بالسلطة فمصيره مصير كلب يصطدم بسيارة نقل على الطريق السريع، تتناثر جثته ألف قطعة ولا يسرع أحد لنجدته ولا يهتم أحد بدفنه!”. ماذا أفعل والسفير المعادي حضر إلى المحروسة وسيقدم أوراق اعتماده. صحيح أنهم بعثوا بشخص باهت لم يسمع به أحد إلى تل أبيب ليكون سفيرا لمصر، ولكن رجل العدو الذي لا يحق له أن يملك ذرة واحدة في الأرض المقدسة فلسطين جاء ليكون رجل دولة مهما، إنه قادم من مدينة اسمها رادوم في بولندا، التي ولد فيها عام 1932م، وتعلم في باريس، وهاجر إلى الولايات المتحدة، ثم وصل ليشارك في احتلال فلسطين، ويبدي اهتماماً بالتاريخ وما يسمى المحرقة. وينخرط في أجهزة المخابرات، ثم يرتقي إلى منصب المدير العام لمكتب رئيس الحكومة الإرهابي مناحم بيجن بين عامي 1977 و1980م. ومن هناك يأتي إلى بلادنا ليكون أول سفير يمثل الغزاة القتلة!
يقولون يا سعد إن هذا السفير الإرهابي من المتشدّدين الذين يرفضون السلام مع العرب، ويرفض اتفاقيات كامب ديفيد التي وقعها رئيسنا مع زعيمه الإرهابي، ويدعو إلى عدم الانسحاب من الأراضي المحتلة في سيناء أو فلسطين أو سورية! ثم يا للهول يؤمن بما يسمى إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات!
هل جاء إلى مصر ليكون سفيرا، أو لاستكشاف الأوضاع في بلادي ليحقق حلمه الشرير بدولة اليهود العظمى التي تمتد من العراق إلى أم الدنيا؟ أظن ساعتها- لا قدر الله- سيغيّر حياة الناس إلى العبودية الكاملة تحت سيادة أبناء إسحق المزعومين، ويقدم لهم إسلاما جديدا ريما يغير فيه فرائض الوضوء وأركان الصلاة، ويُقنّن الربا، ويُحرّم الجهاد!
لماذا يدنس هذا الكائن العدواني أرض بلادي الطاهرة؟
***
غبت عن أصدقائي، وخلوت إلى نفسي، واعتذرت لمصطفى رضا بأني مرهق، ولا رغبة لي في الخروج أو لقاء الأصدقاء.. حاول أن يقنعني بالخروج كالعادة، ولكني أصررت، فمضى كاسفا تبدو علائم الحزن على وجهه.. ورحت أحاول النوم، ولم أستطع.
ألح عليّ موضوع السفير الإرهابي وتدنيسه لأرض بلادي. لماذا لا تسمع الحكومة لرأي المعارضين؟ لماذا لا تساوم به أفكارهم الإرهابية العنصرية وترفض هذا السفير وتطلب تغييره أو تأجيل اعتماده على الأقل، حتى تحسّن مصر أحوالها الداخلية، وتستجيب لما يقال من آراء علمية وموضوعية في إصلاح السياسة والاقتصاد والمشاركة الشعبية؟ كانت هناك آراء جيدة تنشرها الأقلام المخلصة، وتنفيذها يصب في مصلحة الحاكم الفرد قبل مصلحة المجموع الشعبي المظلوم.. قرأت مقالا للكاتب (ح. م. ق) يطالب فيه بمبادرة سلام مع الإسلام، لنزع فتيل الغضب بعد الحديث عن تجفيف المنابع، والفتنة بين أبناء الشعب، وبدء الصراع مع المعارضين، وشيوع أمر التدخل الأميركي والصهيوني في السياسة المصرية، وليت حكومتنا استجابت له، ولكنها فيما يبدو طاردت الكاتب، ووضعته على لائحة المطلوبين!
تساءلت وأنا أتقلب على جمر النار، ورأسي لا تستقر على المخدة:
“لماذا لا يخرج الشعب رافضا لهذا السفير الإرهابي؟”.
تذكرت أن الشعب أو قسما كبيرا منه خرج لاستقبال الرئيس القادم من القدس أو كامب ديفيد، مكايدة للعرب الذين رفضوا المبادرة، وليس إيمانا بمضمون المبادرة أو المعاهدة.. لم ينظر واحد منهم في مغزى أن تذهب إلى عدوّك في عقر داره التي اغتصبها منك وتعرض عليه تنازلات ضخمة، وتعترف بوجوده العدواني الظالم، مقابل أن يوقف الحرب! إنه استسلام وليس سلاما، بدليل أنه لم يوقف آلته العسكرية إلا في وقت خطابك أمام أعيانه وزعمائه، ثم تجاهلت بنود المعاهدة المجحفة التي أملاها عليك، نسيت أن أبناءك قهروه وزحزحوه عن مواقعه، وألحقوا به خسائر ليست قليلة. لماذا نحن عاطفيون ولسنا عقلانيين؟ وهل من العقلانية أن أقدّم مبادرة دون أن أعرف المقابل جيدا أو المقابل الأساسي الذي أريده ويسلم به الطرف الآخر؟ لقد كان العدو يتمنى أن يجد من يجلس معه من العرب، وأظنه كان على استعداد أن يعيد ما سلبه دون شروط مجحفة لو تحققت هذه الرغبة، ولكنه وجد من يذهب إليه ويقدم له أكثر مما توقع، كأنه يعلن استسلامه وهزيمته. دعك من الإنشائيات الفارغة التي غلّفت المبادرة وكتبت حيثياتها تحت وميض العدسات وأضواء الشاشات، وهدير الأخبار التي تنقلها وكالات الأنباء!
لم أنم، ولم أتوقف عن التفكير في هذا الضيف الثقيل الذي سيحلّ على ضفاف النيل سفيرا رسميا لمن قتلوا أبناءنا وأهلنا وما زالوا يقتلونهم!
غفلت عيناي في السّحر، وصحوتُ في الفجر، وقد قررت أمرا.
***
يطاردني جمال الدين الأفغاني بكلماته الساحرة التي أحفظها منذ سنوات، حفظت له قوله: “لا يتسع الأمر إلا إذا ضاق، ولا يظهر نور الفجر، إلا بعد الظلام الحالك. العبيد هم الذين يهربون من الحرية فإذا طردهم سيد بحثوا عن سيد آخر”. كما أردّد حواريته القصيرة، قالوا لجمال الدين الأفغاني: إن المستعمرين ذئاب، فقال: لو لم يجدوكم نعاجًا لما كانوا ذئابا”. وأعجب للغاية بعبارته العميقة: “أفضل وسيلة لإقناع الغربيين بالإسلام، أن نقنعهم أولًا بأننا لسنا مسلمين كما ينبغي”، قلت في نفسي تعليقا على هذه العبارة الأخيرة: لوكنا مسلمين كما ينبغي لما جاء السفير الإرهابي إلى بلادنا، بل ما قام كيانه الغاصب أصلا على أرض القداسات والمسجد الأقصى!
قال لي مصطفى رضا حين رددت هذه المقولات على أسماعه ذات يوم:
– ألا يعلم جمال الدين الأفغاني أننا نعاج مذ تخلينا عن الجهاد الحقيقي، واكتفينا بمارشات الإذاعة والأناشيد الحماسية؟
قلت له:
– ألم تسمع قوله عن الهروب من الحرية؟ العبيد لا يجاهدون يا مصطفى؟
– لا تكن قاسيا يا سعد، فقد حاربنا في رمضان، وكدنا نحقق النصر الكامل، ولكن..
قلت له:
– ولكن ماذا يا مصطفى؟ القوم ضيّعوا كل شيء!
قال بحزن:
– هذا صحيح، لو أنهم تنازلوا قليلا وشاوروا أهل الرأي وحاوروا أهل الخبرة ما ضاع شيء! إنهم يزدرون كل رأي غير رأيهم، وكل فكر يختلف عن أفكارهم. بل قل إنهم يريحون أنفسهم من وجع الدماغ، ويتعاملون مع الأمور بطريقة عشوائية، لا مكان فيها للتحليل أو الدرس! وبعد ذلك يصرون على سحق وجود الشعب ماديا ومعنويا لتبقى الأكثرية مشغولة بإشباع البطن وفق منطق ” جوع كلبك يتبعك!”.
آه يا مصطفى، لن أكون كلبا، ولن أتبع السلطة مهما كانت النتائج. سأقول للعالم إن السفير الإرهابي لا مكان له في مصر، وليفعلوا بي ما يشاءون!
***
قبيل الظهر ركبت “موتوسيكلًا” متهالكا يخترق الشوارع الترابية في القرية، وجلست خلف السائق، وأسندت حقيبة سفر كبيرة بيني وبينه. وصلت إلى الوحدة المجمعة بأجهور، كان هناك ثلاثة موظفين يجلسون في شمس الشتاء أمام الوحدة وبالقرب منهم تجلس فوزية عرفان تتثاءب، ويبدو أنها كانت تتأهب لمغادرة المجلس لتعود إلى بيتها. ألقيت السلام مبتسما، وجاء أحدهم يساعدني في حمل الحقيبة، والصعود بها إلى الطبقة الثانية من المبنى.. أخبرت الحاج نصيف سكرتير مجلس القرية بأنني أحضرت بعض بضائع” الانفتاح” من بور سعيد لمن يريد الشراء. تكاثر الموظفون حولي، يطلبون أن أفتح الحقيبة ليتفرجوا على البضائع. طلبت منهم أن أدخل” دورة المياه” لأفرغ لهم، اصطحبت الحقيبة معي، وخرجت بعد قليل إلى إحدى الحجرات، وفي يدي مدفع” رشاش” صوبته نحو هم جميعا. قلت لهم سيبقى معي هؤلاء- وأشرت إلى بعض الموظفين- وقلت: لن يصيبهم أذى طالما ظلوا في مكانهم. وأطلقت من المدفع عدة طلقات عبر النافذة. كنت أنتفض. لأول مرة أطلق رصاصا، تراجع الموظفون في أماكنهم، التقطت من الحقيبة شريطا للشيخ عبد الباسط فصدح صوت القرآن الكريم، وضعت شريطا آخر لعبد الحليم حافظ في المسجل، ليعلو صوته بنشيده الحماسي:
“فدائي. فدائي.. أهدي العروبة دمائي
وأموت أعيش ما يهمنيش
وكفاية أشوف علم العروبة باقي.. فدائي”.
تدفق أهالي أجهور نحو مبنى الوحدة عقب سماع الطلقات، وراحوا يقفزون من بيوتهم وحقولهم لاستطلاع الخبر. كانت الدهشة تتسع في عيونهم وتغطي ملامحهم، خطواتهم اللاهثة تبحث عن الأمر الجلل في مجلس القرية، سمعوا صوت مطرب الانتصارات الوهمية يجلجل في الوحدة المجمعة عبر النافذة. اخترت شريطه لأذكرهم بحلم الانتصار. ثم أدرت لهم أشرطة قديمة لخطب الزعيم الملهم التي لم يعمل بها، إنها تدفع عني تهما كثيرة إذا كانوا عقلاء، وفكروا في هدفي النبيل:
“أيها الأخوة المواطنون: إن الذين يقاتلون يحق لهم أن يأملوا في النصر، أما الذين لا يقاتلون، فلا يحق لهم أن ينتظروا شيئا إلا القتل”.
وجهت خطبة مسجلة، صغتها بأسلوبي البسيط الذي يحاول الاقتراب من الجمهور ومستواه، قلت فيها:
بسم الله الرحمن الرحيم..
يا أهالي أجهور الكرام. أنا سعد إدريس حلاوة، أنا منكم وفلاح مثلكم، أزرع أرضي بيدي وعرقي، لم أتركها، ولم أفكر في بيع الجاموسة كما فعل غيري، ولم أرهن البيت أو أقترض بالربا لأشتري تذكرة سفر، أو عقدا مزورا أسافر به إلى ليبيا أو السعودية، كل واحد فيكم يعرف من أنا، ويعرف بيتي، ويعرف عائلتي، ويعرف أخلاقي، ويعلم أني ورثت من المرحوم والدي فدادين لا يستهان بها، وأعيش في حالي ومستور بحمد لله، يعني لست محتاجا..
المهانة التي يتعرض لها شرفنا اليوم، تفرض ألا نلبس الطرح ونسكت، أو نخاف على بيت أو جاموسة أو زرعة، إنها تجعلنا نتحرك. لا بد أن نتحرك، لا بد أن ندافع عن شرفنا بدمنا، لا ضرورة للعيش وشرفنا يداس ويباع أمام أعيننا، مصر هي شرفنا، مصر ليست الحكام ومن معهم.. مصر هي أنتم وأنا وكل الشعب الذي يشقى ويجوع ويجري وراء لقمة العيش، من يحكموننا لا تهمهم حياتنا ولا مستقبلنا.
يا أهالي أجهور: اليوم هو الثلاثاء 26 فبراير 80 19. اليوم ستفتح لليهود القتلة سفارة في الدقي، وسيرفعون عليها علمهم، سيدنسون أرض مصر وسماءها”.
“يا أهالي أجهور: أنا واحد منكم، أنا ضميركم، أنا صوتكم الذي تكتمه صحافة النفاق.. وقد قررت أن أدفع دمي لتبقى رأسنا مرفوعة دائما..
قولوا معي: نطالب بطرد السفير الصهيوني من القاهرة.. يسقط السفير الصهيوني..”..
ردد الناس الهتاف ثم كرروه وحدهم، وارتفعت زغاريد النساء والبنات مع زغاريد الرشاش وهي تملأ فضاء القرية التي تجمعت تحت نافذة المجلس حيث أخاطبهم عبرها..
***
قلت في نفسي:
ستنجح الخطة، وتستجيب الحكومة، وترفض اعتماد السفير الإرهابي.. وساعتها سيعلم الغزاة أن مصر لن تستسلم للإرادة الصهيونية، وأن أهلها مهما سمعوا من كلام عن السلام الزائف، وإنشائيات الرخاء الفارغة لن يصدقوا اليهود، ولن يقعوا ضحية مكرهم وخداعهم.. وستجد الحكومة في شعبها سندا لها كي تردع الغزاة عن إجرامهم، وتحصل على حقوقنا المشروعة كاملة. أتمنى أن تستخدم الحكومة العقل، بدلا من الذراع. صحيح أنني قررت التضحية بنفسي، ولن أتراجع عما فعلت، وليت المسئولين يفكرون بهدوء وروية، ويوظفون ما فعلت لصالح الوطن أمام الكيان المجرم! أعلم نهايتي كما قال كاتب الحكومة الساخر: إن من يواجهها سيكون مصيره مثل كلب دهسته سيارة نقل ثقيلة، فجعلته مثل اللحمة المفرومة على الأسفلت، ولكني أسعى لرفعة وطني، وليتهم يفهمون..
عرفت من بعض من كانوا يقفون تحت النافذة أن عمي العمدة حفناوي حلاوة، لم يجد بدا من إخلاء مسئوليته، فأبلغ في الساعة الثالثة عصرا مأمور مركز طوخ بما حدث، وتطور الأمر فأبلغ المأمور مدير الأمن، الذي أبلغ بدوره وزير الداخلية، الذي أبلغ الرئيس بما حدث.
كانت الشمس الشتوية تميل إلى الغروب ومعه اشتدت لسعات البرد. أحسست النهاية التي اقتربت! رأيت رتلا طويلا من سيارات الأمن المركزي على طريق القرية الترابي في طريقه إليّ، وفي المقدمة قيادات الداخلية والرتب الكبيرة يقودهم الوزير! عرفته من شكله الذي رأيته في التلفزيون والصحف، نادى عليّ بالاستسلام وإلا..
قلت: اطردوا السفير أولا..
حين أصررت، ناول مكبر الصوت إلى أمي، وسمعته يقول لها:
“لقد صبرنا عليه طويلا”، وزعم لها أنه لا يريد استخدام العنف معه لإنقاذ الرهائن.
ومن قال لك يا وزير الذراع الطويلة إنني سأقتلهم؟ لقد قلت لهم لن أمسّكم بسوء. فقط كونوا هادئين حتى ندافع عن شرفنا. إنني لم أقتل كلبا ولا قطة في حياتي، والرهائن الأسلوب الوحيد للاستجابة لمطلب الشعب كله. أما سمعت الزغاريد يا وزير ال..، امتنعوا عن اعتماد سفير إرهابي يهودي يكره السلام والحياة والأمل..
آه يا أمي! إني أخرج من جلدي حين أسمع صوتك في مكبر الصوت. رجاؤك المختلط بالدموع يهزني من الأعماق سأرد عليك. صوت المسجل ينطلق:
ست الحبايب يا حبيبة.. يا أغلى من روحي ودمي..
يا حنيّنة وكلك طيبة.. يا رب يخليكي يا أمي
أمي ترجوني أن أرحمهم من البهدلة، بهدلة الحكومة والعسكر والدنيا المقلوبة لمواجهتي بمفردي.
قلت لأمي متوددا إليها:
– مصر كلها يا أمي تتعرض يوميا للإهانة والبهدلة في الأكل والشرب والسكن والمواصلات وأخيرا دنسها السفير الإرهابي.
قالت لي:
– يا بني لا شأن لنا بالسياسة. ارحمنا!
– لا أتكلم في السياسة يا أمي ولا أعمل بها. الأمر الآن هو أمر الكرامة والشرف. أعلم جيدا يا أمي أني منذ صلاة الظهر صرت “المرحوم سعد”، آلاف الشهداء سبقوني إلى رحمة الله. لا تحزني يا أمي، بل زغردي..
جاءوا بخالي الغالي “نور حلاوة”، وهم يعلمون تأثيره عليّ. قلت له: إني أدافع عن شرفنا يا خالي. يئس خالي من إقناعي فانهمرت دموعه، وترك المكان ومضى. أثرت في نداءات أمي. كنت أتمنى أن أستجيب لها، ولكني لم أستطع. الطريق في نهايته…
دموع أمي تنهمر، مع انهمار سيل الطلقات في وقت واحد على نافذتي من كل اتجاه، وقنابل الدخان والغاز المسيل للدموع تسابق الطلقات.. الليل والشجر والحجر وغضبة المطر تصد النيران.. طلقات العسكر تتكاثف في لحم النافذة وأضلعها، كثافة الطلقات تفصل العظم عن لحم الحائط، وتتهاوى النافذة على الأرض من الطبقة الثانية. كنت أجلس القرفصاء في ركن الحجرة، أسند مدفعي الرشاش الى الحائط، ظلام الشتاء وقنابل الدخان التي مازالت تنفجر من حولي في الحجرة لا تجعلني أتبين موضع فوهة رشاشي. أخاف على الرهائن الغلابة. أخرجت من جيب البالطو، بطارية صغيرة وضغطت على زر الإضاءة فيه، وصوبتها نحو الرهائن، أطمئن على سلامتهم، وأوصيهم بنفس متقطع ألا يغضبوا مني.. أدرت البطارية وأنا أترنح إلى عيني التي اخترقتها رصاصات العسكر، ماء عيني يختلط بالدم المتدفق باتجاه الفم. اصطدم لساني بملوحة الدم، أغمس إصبعي في الدم المنهمر من عيني، أدرت البطارية المضاءة، وكتبت بدم العين على الحائط:
” اطردوا السفير الصهيوني من القاهرة، ولتحيا مصر حرة، ولتحيا مصر عربية..
سعد إدريس حلاوة في 26 فبراير 1980م “.
***
ضباط الوزير يتكاثرون خلف الباب المغلق للحجرة، يخرج حربي (أحد الرهائن) ويداه الى أعلى، تستقبله بنادق العسكر وخناجرهم، يأمره ضابط يلبس زي الصاعقة أن يرجع، ويدير إليهم ظهره، ثم يدخل الحجرة مرة أخرى ليجرني من الركن الذي أقبع فيه، دخل حربي متجها إليّ والضابط يستتر بظهره.. ومن خلف الساتر أفرغ الضابط (البطل!) كل رصاصاته في جسدي، وراح وأنا غارق في الدماء يهشم جمجمتي وينهال عليّ بسن حذائه، يضرب في الفك، وفي الظهر، وفي الرأس، وفي الجنبات.. من أجل السفير الإرهابي، ونجمة داود التي تعلو في مصر. وصفت إذاعة العدو المشهد بأنه “عيد لنا ولهم”، آه يا وطني!
طافت ببقايا الذاكرة الآية الكريمة: “وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ ۚ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (البقرة: 115).
شريط سريع يمر أمام ذاكرتي المتداعية: عرفان الذي ضاعت ثروته، عبد الله حلاوة الذي قاتل في اليمن وسيناء وشهد النكسة والعبور، أمي الحبيبة ودموعها الغزيرة ونشيجها الذي يقطع نياط القلب، سيد السمكري وكفاحه، ثريا العبد ومغامراتها، رؤساء التحرير الكذبة، عمي حفناوي الذي رفع الراية كي لا يؤخذ بجريرتي، يونس سليم الذي يقدسه المنافقون، مصطفى رضا، الأستاذ…. كان آخر وعيي بالدنيا سبابتي:
أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله.. أشهد أن…….
***