لا يتحرك المشروع الإسلامي للنهوض بواقع الأمة في فراغ، بل يتفاعل تأثراً وتأثيراً متبادلاً مع البيئة السياسية بمستوياتها المختلفة إقليمياً ودولياً؛ الأمر الذي يزيد من أهمية القراءة العميقة والموضوعية للتحوّلات التي يشهدها النظام الدولي، والوقوف على الفرص المتاحة ومساحات التحرك التي يمكن استثمارها من أجل توفير قوة زخم ودفع مهمة لتقدم مشروع نهوض الأمة واستئناف دورها الحضاري.
ثمة قناعة تتبلور بأن النظام الدولي يشهد تحولات جوهرية متسارعة، ربما تقود خلال سنوات قادمة لإحداث تغييرات تسهم في إعادة صياغته باتجاه تشكُّل نظام جديد يُنهي حالة الأحادية القطبية، ويتيح الانتقال إلى نظام ثنائي أو متعدد الأقطاب، مع عدم استبعاد السيناريو الانتقالي لنظام بلا أقطاب دولية، ومن أبرز هذه التحولات:
1- ارتفاع حدّة الاستقطاب الدولي، وارتفاع حُمّى التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية التي ما تزال تتربع على سُدّة النظام الدولي أحادي القطبية، والصين الطامحة بتعزيز نفوذها وحضورها الدولي بخطوات متدرجة، ودون اندفاع أو تعجّل غير محسوب العواقب.
كما أن حالة التوتر بين روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي تفاقمت بصورة كبيرة خلال العامين الماضيين على وقع الحرب الروسية الأوكرانية التي لا تلوح مؤشرات إلى قرب انتهائها، حيث تحولت إلى حرب استنزاف يصعب التنبؤ بمآلاتها.
النظام الدولي يشهد تحولات متسارعة ربما تقود لتغييرات تسهم في إعادة صياغته باتجاه تشكُّل نظام جديد
2- بروز قوى دولية جديدة صاعدة أو ناشئة، كالهند والبرازيل وتركيا، تُزاحم على مساحات النفوذ الدولي، وقد تزايدت الاحتجاجات خلال السنوات الماضية على غياب العدالة والتوازن عن مؤسسات النظام الدولي القائم، وعلى هيمنة قوى محددة على القرار السياسي الدولي رغم تغيّر الظروف والمعطيات التي أفرزت المؤسسات الدولية التي عبّرت عن موازين قوى أعقبت الحرب العالمية الثانية، وتطالب العديد من القوى الصاعدة ببناء منظومة دولية جديدة أكثر توازناً وانسجاماً مع المتغيرات التي طرأت على موازين القوى الدولية.
3- نشوء تكتلات دولية مؤثرة ذات طابع سياسي واقتصادي كمجموعة «بريكس» التي انطلقت فكرتها عام 2006م، وضمت الصين وروسيا والهند والبرازيل، والتحقت بها جنوب أفريقيا عام 2009م، فيما توسعت المجموعة مطلع العام 2024م بانضمام 5 دول، هي: إيران والسعودية ومصر والإمارات وإثيوبيا، ولم تُخف الدول التي أنشأت هذا التكتل الاقتصادي العالمي سعيها لكسر هيمنة الغرب وإنهاء نظام القطب الواحد.
4- تراجع مكانة القانون الدولي الإنساني ومؤسساته التي شكلت جزءاً من منظومة النظام الدولي القائم، بسبب الفشل في تطبيق قرارات المحاكم الدولية ضد الأقوياء والمتحكمين في القرار السياسي الدولي، كما برزت حالة من الانتقائية في ملاحقة المتهمين بجرائم الحرب والإبادة.
إضافة إلى ذلك، فإن إسراف الولايات المتحدة في استخدام حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الذي يُعدّ الأداة التنفيذية لقرارات الجمعية العامة ومحكمة العدل الدولية، قد أسهم في تعطيل عمل تلك المؤسسات وحرمها من القدرة على أداء مهامها في تحقيق العدل وحفظ الأمن والسلم العالمي، وقد برزت ازدواجية المعايير بصورة صارخة في تعامل الدول الغربية مع الحرب في أوكرانيا ومع العدوان الصهيوني على قطاع غزة.
5- تزايد فجوة القيم الاجتماعية على الصعيد العالمي، وبروز خلافات وانقسامات جوهرية بسبب سعي القوى الغربية المهيمنة لفرض هويتها الثقافية ومنظومتها الأخلاقية على بقية دول العالم بالقوة والإكراه وسن التشريعات القانونية التي تجرّم المخالفين، وأوضح مثال على ذلك مساعي تلك القوى خلال السنوات الأخيرة لترويج حقوق المثليين وفرضها على مختلف دول العالم، وهو ما حمل مؤشرات خطيرة وتسبّب بخلاف شديد بين تلك الأطراف التي جعلت من حقوق المثليين قضية عالمية ذات أولوية قصوى، والكثير من دول العالم التي أعلنت تمسّكها بهويتها الثقافية ومنظومتها الأخلاقية التي تُعلي شأن الأسرة وتتمسك بها كركيزة ووحدة اجتماعية لا بديل عنها، وفي مقدمة تلك الأطراف الدول الإسلامية وروسيا والصين.
المشروع الإسلامي.. والتفاعل مع التحولات الدولية
والسؤال المهم: كيف يتفاعل المهتمون بمشروع الأمة النهضوي مع هذه التحولات في النظام الدولي في ظل الاهتزازات والتحديات التي يواجهها؟
لقد شكلت الأحادية القطبية والهيمنة الغربية على القرارات والسياسات الدولية واحداً من أهم المعوّقات التي اعترضت طريق مشروع النهوض الإسلامي، حيث نظرت الأطراف الغربية طوال العقود السابقة إلى مشروع النهوض الإسلامي نظرة شك وارتياب، وتعاملت معه كتهديد ينبغي مواجهته وعرقلته بكل الوسائل الممكنة، ولا شك أن اهتزاز النظام الدولي القائم، وبروز مؤشرات لاحتمالات تغيّره خلال سنوات قادمة، يمثل تطوّراً مهماً وفرصة ينبغي دراسة كيفية استثمارها.
الهيمنة الغربية على السياسات الدولية شكلت أهم المعوّقات التي اعترضت طريق مشروع النهوض الإسلامي
كما أن تزايد الانتقادات لغياب معايير العدالة عن النظام الدولي المتحكم بمقدرات العالم وبقراره السياسي، وتصاعد المطالبات بإنشاء نظام دولي أكثر عدلاً وتوازناً، يشكل فرصة في اتجاهين؛ الأول: إبراز قيمة العدل والإنصاف التي يقوم عليها المشروع الإسلامي ويُعلي من شأنها كقيمة حاكمة لنظامه السياسي، والثاني: الإسهام في زيادة النقاش والجدل وممارسة الضغوط من أجل إنهاء هيمنة القوى المتنفّذة على المؤسسات الدولية التي كانت القضايا العربية والإسلامية الضحية والمتضرر الأكبر من سياساتها وقراراتها.
ولا شك أن بروز قوى دولية صاعدة تسعى لتعزيز حضورها العالمي يمثّل فرصة للتواصل والتفاعل معها، سعياً لتعظيم القواسم المشتركة واستثمار أدوارها في اتجاهات إيجابية تخدم مصالح الأمة ومناصرة قضايا شعوبها المضطهدة.
وفي هذا السياق، يشار إلى الموقف السياسي والأخلاقي المتقدم لدولة جنوب أفريقيا التي رفعت قضية ضد الكيان الصهيوني في محكمة العدل الدولية واتهمته بارتكاب جرائم إبادة، وطالبت بوقف عدوانه على قطاع غزة.
وتمثّل قضية استهداف الدول الغربية لمنظومة الأخلاق والقيم الثقافية للشعوب والحضارات المختلفة عامل استفزاز يوفّر مساحة تنسيق وتعاون في مواجهة الهجمة الغربية، وفي التحرّك من أجل حماية القيم المشتركة وتعزيز مكانة الأسرة والأخلاق والحفاظ على خصوصيات الهوية الثقافية لشعوب العالم، بعيداً عن الوصاية ومنطق الغصب والإكراه.
وإذا كانت الكثير من الدول العربية والإسلامية تغفل عن أهمية إعلاء منظومة القيم وحمايتها وتعطي الأولوية للحفاظ على علاقاتها مع القوى الغربية المهيمنة، فلا شك أن المهتمين بالمشروع الإسلامي ينبغي أن يكونوا أكثر المعنيين بالتعامل مع هذا التحدي والاستفزاز الغربي، وبالبحث عن مساحات التنسيق المشترك مع الأطراف الدولية المعنية بالحفاظ على قيمها وخصوصياتها الثقافية.
ختاماً، تبدو المساحة واسعة أمام المشروع الإسلامي ليخطو خطوات مهمة على طريق التقدم وتعزيز الفاعلية وتحقيق الحضور واستثمار التحولات والاهتزازات في النظام الدولي، لكن ذلك يحتاج رؤية ناضجة ومبادرات عملية لا تتأخر ولا تفوت الفرص.
ولا شك أن الانحياز والتواطؤ الغربي مع الكيان الصهيوني في جرائم الحرب والإبادة التي ارتكبها بحق الفلسطينيين في قطاع غزة، قد شكّل صدمة قوية للوعي والشعور العربي والعالمي، ومثَّل سقوطاً مدوّياً للقيم الغربية وما روجته من مزاعم حول الحريات وحقوق الإنسان والطفل والمرأة؛ ما يجعل من اللحظة الراهنة فرصة سانحة للتحرك واستثمار حالة الوعي لدى شعوب العالم من أجل كشف زيف الدعاوى الغربية والتواصل مع الشعوب التي عبّرت عن سخطها ورفضها لسياسات حكوماتها.