ظهر نظام الخلافة عقب وفاة النبي صلوات الله عليه، بل قبل أن يقوم المسلمون بتكفيته ودفنه، حيث اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة ليختاروا أبا بكر خليفة له، وقد “كرهوا أن يبقوا بعض يوم وليسوا في جماعة”، فكان فعلهم دلالة عمق في فهم مقاصد الدين، ونضج في فهم ضرورات السياسة، فالخلافة أو الإمامة كما يقول الماوردي: “موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسة الدنيا به”، والسياسة والدين – كما قال أبو حامد الغزالي – ” توأمان: فالدين أصل والسلطان حارس، وما لا أصل له فمهدوم وما لا حارس له فضائع”، وقال ابن تيمية: “إن ولاية أمر الناس من أعظم واجبات الدين؛ بل لا قيام للدين ولا للدنيا إلا بها”.
دولة الخلافة وحماية الدين
ولذا كان أبرز ما أنجزته الخلافة في نسختها الأولى -زمن الخلفاء الراشدين- العناية بأصول الإسلام، فجمع أبو بكر رضي الله عنه القرآن في مصحف واحد، لما خاف ضياع شيء منه بعد استشهاد كثير من حفاظه، وحافظ عثمان رضي الله عنه على كتابته بلهجة قريش وما توافق معها، لما رأى اختلاف الناس حول قراءاته، وفي الحالتين عهد الخليفتان إلى لجنة من علماء الصحابة وقرائهم بالأمر.. وفي ذلك العصر أيضًا كانت المحاولات الأولى لجمع الأحاديث النبوية والمحافظة عليها، وهي محاولات لم تكتمل زمن أبي بكر وعمر، وجرى بعضها في العصر الأموي، وفي ذلك العصر الأموي تمت العناية بنقط القرآن وإعجام حروفه، وتشكيله، وجرى ذلك بإشراف الساسة من خلفاء وأمراء، وقد استمرت العناية بكتاب الله تعالى طوال العصور التالية، ولك أن تتذكر أن الخلافة العثمانية تأخرت في إدخال المطابع إليها وطبع المصاحف فيها مخافة دخول خطأ في إحدى نسخه، فيشيع الخطأ بالطباعة الميسرة على نطاق عريض.
ويتصل بحراسة الدين الحفاظ على شريعة الإسلام حاكمة، وهو حرص استمر حتى أخريات القرن التاسع عشر الميلادي، لما تكالبت على الأمة جيوش المستعمرين واستبداد المتآمرين معهم والموالين الخائنين.
وقد حاربت الخلافة منذ بدايتها المرتدين عن الإسلام زمن أبي بكر، وحاربت الزنادقة، وفي العصر الأموي تم التصدي لأوائل الفرق المنحرفة من المجسمة والقدرية، ومنهم معيد الجهني والجعد بن درهم والجهم بن صفوان وغيلان الدمشقي، ولما اشتد خطر الزنادقة في العصر العباسي خصص الخليفة المهدي ديوانًا لتعقبهم سمي “ديوان الزنادقة”.
الخلافة ووحدة الدولة الإسلامية
من أبرز منجزات الخلافة أنها حافظت على دولة الإسلام دولة واحدة، وحاربت عوامل الانقسام والتوزع دون هوادة، وكانت أسبق تلك المحاولات في حروب الردة التي سعت إلى التحرر من الحكم المركزي لتعود إلى حكم القبائل المستقلة، وكانت أول بوادر الانقسام السياسي بعد انقضاء الدولة الأموية، وقيام العباسية، إذ استقل الأمويون بالأندلس، لكنهم ظلوا عقودًا لا يتسمّون بلقب الخلافة، إيمانًا منهم بأصل وحدة الدولة، وأنهم قد يستطيعون العودة إلى سدة الحكم، ليحكموا دولة واحدة، فلما طال بهم الأمد، وجاء منهم من طمح إلى التسمّي بلقب الخليفة، فعلوها، ثم ظهرت خلافة عبيدية أو فاطمية بشمال إفريقية، غير أن هذه أو تلك أو غيرهما من المحاولات لم تفصل بين أجزاء الدولة الواحدة بسبب تعدد الخلائف، فظلت حركة التنقل والتجارة والحج دون عائق، وكان المرء يسير من الأندلس إلى مكة، أو القاهرة، أو بلاد الترك؛ دون أن يشعر أنه تجاوز دار الإسلام الرحيبة التي تأسست على الدين الخاتم.
وظل الأمر على ذلك حتى المرحلة الأخيرة من عمر الدولة العثمانية حيث تساقطت بلاد الخلافة في قبضة الاستعمار، بل ظلت بعض الأقطار الخلافة تعترف بسلطان الخلافة، والولاء القلبي لها حتى تمام إسقاطها سنة 1924م.
ولما كانت في النزع الأخير في أعقاب الحرب العالمية الأولى سارع المستعمرون في تقسيم أسلابها، وقطع وشائج القربى بين أقطارها، وقد يتفقون على تقاسمها، كما حدث في اتفاق سايكس بيكو سنة 1916م، وقد يتبرعون ببعض أملاكها لمن يخدم أغراضهم، كما حدث في وعد بلفور سنة 1917م، وقد يتصارعون فيما بينهم على الغنيمة كما حدث في أوقات كثيرة.
الحفاظ على الأخلاق
اهتمت دولة الخلافة بحراسة حميد الأخلاق، وبالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فجاء في خطبة أبي بكر t لما بويع بالخلافة ” الصدق أمانة، والكذب خيانة.. ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمَّهم الله بالبلاء”، وقد نهى عمر بن الخطاب t أن يطوف الرجال مع النساء بالكعبة، ونهى عن دخول الغرباء على النساء اللاتي غاب أزواجهن في الجهاد.
وقرر ألا يغيب الجند في معسكرات الجهاد أكثر من ستة أشهر، ثم يعودون إلى أهليهم، حتى يقطع أسباب الفساد ببعاد الرجال عن نسائهم وأولادهم..
وفي مرحلة تالية أنشأت الدولة ولاية الحسبة، ويتولاها فقهاء علماء، يقومون برعاية الأخلاق، وينجزون قراراتهم في سرعة وحزم.
دولة الجهاد العادل ونشر الإسلام
وواصلت الخلافة الجهاد لتزيح أنظمة الطغيان العالمي عن الشعوب، وتتركها تختار معتقداتها دون إكراه (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر)، ولما خطب أبو بكر الناس خطبته الأولى عقب بيعته قال: “وما ترك قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم الله بالذل”، وقد عبَّر الجند المسلمون عن فهمهم غايات الجهاد كما في مقولة ربعيّ بن عامر لما ذهب رسولاً إلى القائد الفارسي رستم: “إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضيق الدنيا إلى سعتها، ومن جور الأديان إلى عدل الإسلام”. وكان الحرص على دعوة هذه الأعداد الغفيرة من سكان الأراضي المفتوحة وراء رغبة عمر في تبطيء زحف الجيوش الإسلامية المتسارع، حتى يستطيع المسلمون استيعاب هؤلاء: دعوة إلى الإسلام وتربية عليه. وهذا ما يفسر قول عمر t بعد فتح العراق والأهواز: “وددت أن بيننا وبين فارس جبلاً من نار، لا يصلون إلينا منه ولا نصل إليهم.
وقدمت دولة الخلافة نموذجًا في أخلاقيات الحرب، وهذه وصية أبي بكر لجيوشه الفاتحة: “لا تخونوا، ولا تَغُلُّوا، ولا تغدروا، ولا تمثِّلوا، ولا تقتلوا طفلا صغيراً أو شيخاً كبيرا ولا امرأة، ولا تعقروا نحلا ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيرا إلا لمأكلة، وسوف تمرون بأقوام قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له. ولم يغير السلوك الهمجي للأعداء من أخلاقيات المجاهد المسلم في غالب العصور، وأمامنا خبرات تاريخية مريعة اختزنتها ذاكرة الأمة من مذابح أقامها المغول والصليبيون، ونصارى أوروبا في الأندلس، وفي العصور المتأخرة من جرائم الروس والسوفييت ضد المسلمين في البلاد التي ابتليت بحكمهم، ومخازي الصرب والكروات ضد المسلمين في البوسنة والهرسك، وحروب الاستعمار ضد بلادنا في القديم والحديث.
ولم تتوقف مسيرة نشر الإسلام حتى في أزمنة ضعف الخلافة، فلما تراجعت حركة الفتح في العصر العباسي نشطت جهود الدعوة السلمية، وتسارعت وقائع دمج الشعوب المفتوحة في السياق الحضاري الإسلامي لتعود حرجة الفتح من جديد على يد قوى سنَّية متدفقة منها قوة الغزنويين يفتحون الهند، وقوة السلاجقة الذين أمدوا حرجة الفتح بروح جديدة، فدخل المسلمون آسيا الصغرى دخولا مستقرًا، وأقاموا فيها دولة كانت فاتحة خير، وقوة المرابطين والموحدين في المغرب الإسلامي، تنفخ في الأندلس وقواها المتصارعة والمتهاوية روح الحياة وأنفاس المجد، وبعد عقود ظهر العثمانيون الأتراك، ليؤسسوا دولة فتية، غدت بعد عدة عقود مقرًا للخلافة، وأوصلت المد الإسلامي إلى أواسط أوروبا عند أبواب فيينا، ودافعت عن الوجود الإسلامي ضد صليبية الغرب واستعماره على مدى قرون.
دولة عالمية
لقد أصبحت دولة الخلافة الإسلامية دولة عالمية منذ وقت باكر من زمن الفتح، ضمت أجناسًا وشعوبًا وأممًا وديانات، واستوعبت حضارات تليدة، وهضمتها، وأعادت بعثها وأعادت بعثها خلقًا آخر.
وهي في كل ذلك تقدم نموذجًا ممتدًا لتحرير الإنسان والشعوب، والسعي بها إلى مدارج الرقي، ونظرة عاجلة إلى أوضاع الفرس والروم والشعوب المنكوبة بحكمهم قبل الإسلام، وكذا إلى شعوب إسبانيا تحت حكم القوط، وأمم أوروبا في شرقها ووسطها، وما كانت تعانيه من تسلط الحكام وتعيشه من ظلمات الجهل والوثنية والديانات المحرفة بمذاهبها المتصارعة؛ تؤكد عظمة الدور الذي قدمته الخلافة إلى الإنسانية كلها.
الخلافة دولة العدالة والتسامح
كانت عقود الصلح مع أهل البلاد المفتوحة مثالاً للعدل والمرحمة، وكانت سياسة الخلفاء تجاه أهل هذه البلاد ممن لم يدخلوا في الإسلام نموذجًا سياسيًا فريدًا في عصره، ومن لا يذكر مقولة عمر بن الخطاب بعمرو بن العاص: متى استعبدتم الناس يا عمرو وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟ ويأمر ابن القبطي المصري أن يقتص من ابن عمرو بن العاص؛ وهو أمير مصر وصاحب النبي صلوات الله عليه، ومر عمر t بشيخ من أهل الذمة يسأل على أبواب المساجد، فقال: ما أنصفناك أن كنا أخذنا منك الجزية في شيبتك، ثم ضيعناك في كبرك، ثم أجرى عليه من بيت المال ما يصلحه.
ومن لا يذكر مقالة علي بن أبي طالب t: “إنما أعطيناهم الذي أعطيناهم لتكون دماؤنا كدمائهم، ودياتنا كدياتهم”.
ونجد ذلك السمت في تعامل معظم الفاتحين المسلمين، وما مثال تسامح صلاح الدين في فتح بيت المقدس مع أهلها بفريد، مع ما قدّموه في احتلالهم من مذابح يندى لها الجبين، وحين نأتي إلى أعظم الفتوح في العصر العثماني، فتح القسطنطينية؛ نجد محمدًا الفاتح الذي دخلها عنوة بعد قتال مرير، قُتل فيه ألوف المسلمين والنصارى، فلم يزحزحه ذلك عن العدل والسماحة، مما جعل بعضهم -كما يقول المؤرِّخ الألماني كيسلينج- يعتقد أنَّ السلطان الفاتح مسيحيٌّ من الداخل، ويُظهر الإسلام!
وكان علماء الإسلام حراسًا لتلك القيم، يعطون القدوة في الالتزام بها، وتلكم قصة ابن تيمية مع غازان ملك المغول- الذي غزا الشام في أيامه – حيث طالبه بإطلاق سراح الأسرى عنده، بل سعى إلى إطلاق سراح الأسرى النصارى واليهود، وقال:” بل جميع من معك من اليهود والنصارى هم أهل ذمتنا، لا ندع أسيرًا، لا من أهل الملة، ولا من أهل الذمة”، فأطلق الجميع.
وتصدى شيخ الإسلام زنبيلي علي جمال الدين في الدولة العثمانية لقرار السلطان سليم الأول الذي أراد إكراه أهل الذمة في الدولة على الإسلام؛ بعد ما رأى ما يحركونه من قلاقل، وهدده بأن يصدر فتوى بخلعه من السلطنة لمخالفته الشرع الحنيف، فانصاع السلطان لرأيه، وأراد سليمان القانوني أن يبني مسجده المعروف بالسليمانية؛ فاعترض كوخً لرجل يهودي طريق البناء، ورفض بيعه بأضعاف ثمنه، واستشار سليمان شيخ الإسلام فانحاز إلى إقرار حق اليهودي في كوخه، فلم يجد سليمان القانوني بدا من أن يذهب بنفسه إلى اليهودي يطلب منه بيع كوخه بأضعاف ما عرضه عليه رجاله، فوافقه اليهودي.
لقد أثمرت هذه المعاملة أن دخل الناس أفواجًا في الإسلام، من غير عسف ولا إكراه، يقول غوستاف لوبون: “إن القوة لم تكن عاملاً في انتشار القرآن… ولم يعرف التاريخ فاتحًا أرحم من العرب”، وقال توماس أرنولد: “نستطيع أن نستخلص بحق أن القبائل المسيحية التي اعتنقت الإسلام قد اعتنقته عن اختيار وإرادة حرة، وإن العرب المسيحيين الذين يعيشون في وقتنا هذا بين جماعات مسلمة لشاهد على هذا التسامح”، وتحكي زيغريد هونكة صورا من تسامح المسلمين، ثم تقول: “أو ليس هذا منتهى التسامح؟! أين روى التاريخ مثل تلك الأعمال؟ ومتى؟”
وكانت أبواب المشاركة الفكرية والعلمية والاجتماعية مفتوحة بين المسلمين ومخالفيهم في العقيدة، سواء كانت ترجمات عن الثقافات الأخرى، أو مناظرات دينية، أو جدل كلامي كان بعضه يجري في مجالس الخلفاء والأمراء. وظل باب الوظائف المدنية والإدارية مفتوحًا أمامهم، وترقى بعضهم فيها حتى بلغ مكانًا عليًا، فكان منهم الوزراء أحيانًا، وكبار الأطباء، ورجال البلاط، كما كان كثير منهم شركاء مع المسلمين في التجارة والأعمال الاقتصادية، وإن جموع المخالفين للعقيدة الإسلامية من اليهود والنصارى وغيرهم الذين يعيشون في ديار الإسلام بعد مضي نيف وأربعة عشر قرنًا من الزمان لخير دليل على الحرية الدينية التي تمتعوا بها، ولو كانت قد مورست ضدهم حملات منظمة لتغيير معتقداتهم لما كان لهم من باقية.
دولة الخلافة دولة المساواة
فها هو ذا عمر بن الخطاب يمتدح أبا بكر وبلال بن رباح فيسوي بينهما في سياق واحد اعترافًا وتواضعًا، فيقول: “أبو بكر سيدنا، وأعتق سيدنا”، وها هو ذا عبادة بن الصامت وكان أسود شديد السواد، جسيمًا فارع الطول، فيجعله عمرو بن العاص مقدم الوفد الذي أرسله إلى المقوقس لمفاوضته، فيراه فيرتاع لشدة سواده وخلقته، فيقول له عبادة: إن في جيشنا ألف أسود، هم أشد سوادًا مني!
وكان عبد الملك بن مروان يأمر المنادى أن ينادى في موسم الحج أن لا يفتى الناس إلا عطاء بن أبى رباح (ت 114هـ)، وهو إمام أهل مكة، وكان أسود أعور أفطس أشلَّ أعرج مفلفل الشعر، لا يتأمل المرء منه طائلا، وكان إذا جلس في حلقته العلمية بين الآلاف من تلاميذه بدا كأنه غراب أسود في حقل من القطن.. وكذا كان الزيلعي الحبشي (ت 762هـ)، أحد أكابر أئمة الحنفية، وصاحب أحد أهم كتبهم “نصب الراية لأحاديث الهداية”.
وفي السياسية قدمت دولة الخلافة منذ وقت باكر زياد بن أبيه (ت 53هـ)، وكان لقيطًا لا يعرفون له أبًا، فنال من الحظوة أن تقُدم في خلافة عمر وعلي، رضي الله عنهما، ثم حكم المشرق الإسلامي كله لمعاوية بن أبي سفيان الذي استلحقه، ونسبه إلى أبيه.
وأصبح يعقوب بن الليث الصفَّار (ت 265هـ) مؤسسًا لأسرة حكمت بلاد فارس وأجزاء من تركستان، ونُسبت إليه هي الأسرة الصفارية، وكان في مبتدأ أمره يعمل في ضرب الصفر وهو النحاس وبيعه، فأنهضته مواهبه.
وكان كافور الإخشيدي (ت 357هـ) حاكم مصر عبدًا حبشيًا، دميماً قبيح الشكل، مثقوب الشفة السفلي، مشوه القدمين، بطيئاً، ثقيل الحركة..
وهذا والله أفق من الرحابة الإنسانية لم تبلغه أمة من الأمم، بل ما زالت النزعات العنصرية تحكم عالمنا على المستويات السياسية والمجتمعية كما لا يخفى.
دولة الحرية السياسية
وأكد عمر t حق الأمة في اختيار خليفتها، وهو القائل: “من بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين، فلا يتابع هو ولا الذي بايعه”. وأدرك الخلفاء الراشدون أن اختيار الأمة لهم لا يضفي عليهم نوعًا من القداسة، أو العصمة، بل لا يعني بالضرورة أفضلية خاصة، وقد قال الصديق t في خطبته لما تولى الخلافة: “إني ولِّيت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأطيعوني، وإن أسأت فقوموني”، وكذا قال عمر بن الخطاب t: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم”، فتأكد بذلك حق آحاد الرعية في النصح والنقد، وحق الأمة في التعددية السياسية والمعارضة. وقد تعددت الآراء في سقيفة بني ساعدة واستوعب الوعي السياسي في ذلك الوقت هذا الاختلاف، ومن يتذكر معارضة بعض الصحابة اجتهادات سياسية لعمر بن الخطاب، ثم معارضة جماعات منهم بعض سياسات عثمان بن عفان معارضة شديدة يتأكد من ذلك.
ولما أصبح الملك عضوضًا في العصر الأموي أقر الخلفاء حق الأمة في المعارضة السلمية دون المعارضة المسلحة التي تجلب الدماء وتجوز الشر، وقال معاوية: “إني لا أجول بين الناس وبين ألسنتهم ما لم يحولوا بيننا وبين ملكنا”، ومرويات التاريخ شاهدة بحلم معاوية على خصومه ومخالفيه. أما عنف الدولة فقد توجه إلى الثورات المسلحة في الأساس.
دولة الخلافة تقيم العدالة وتحترم القضاء
قال أبو بكر t في خطبته الأولى: “الضعيف فيكم قوي عندي حتى أرد إليه حقه إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله”. ووجه عمر بن الخطاب رسالة إلى قاضيه شريح، يؤسس فيها لطرق تحقيق العدالة والتطبيق الصحيح للشريعة، ووقف علي بن أبي طالب أمام القاضي يخاصم رجلاً يهوديًا، ولم يكن يملك دليلاً، فحكم القاضي لليهودي، فاعترف الرجل بأن الحق لأمير المؤمنين وأسلم..
واستمرت المسيرة الرائعة للعدالة، ونزاهة القضاء، وانقياد الخلفاء والأمراء للشريعة وأحكام القضاة، ففي العصر المملوكي نجد تلك الصفحات الناصعة للعز بن عبد السلام (ت 660ه) الذي تصدى لسلاطين المماليك، حتى اضطرهم إلى شراء أننفسهم ليكونوا أحرارًا؛ فيصح حكمهم للأمة الحرة، ومتعهم من جمع ضرائب من الرعية بحجة جهاد المغول حتى أحضروا ما في بيوتهم من أموال وذخائر، فباعها، وسخر أموالها للجهاد، قبل أن يجمعوا ما يلزم من الناس.
ونجد قاضي القضاة ابن دقيق العيد (ت 702هـ) يرفض الاعتراف بشهادة الأمير منكتمر نائب السلطنة، ويعتزل القضاء، فيضطر السلطان إلى إعادته، بل قبَّل السلطان حسام الدين لاجين يد ذلك القاضي، فما زاد الشيخ على أن قال: أرجوها لك بين يدي الله.
دولة الخلافة تستهدف بسط الرعاية الاجتماعية والاقتصادية
وكان أبو بكر الصديق t يحلب لجواري الحي الذي يسكنه في المدينة أغنامهن، قبل توليه الخلافة وبعدها، وأوصى عمر tعماله بالتوسعة على الرعية قائلاً: “ألا وأشبعوا الناس في بيوتهم، وأطعموا عيالهم، فإن تحفينكم للناس لا يحسن أخلاقهم، ولا يشبع جائعهم”، وكتب علي بن أبي طالب t لعامله على مصر – لما أرسله إليها – يأمره بالرفق بأهلها والمحبة لهم، قائلاً: “واشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سَبُعا ضاريًا تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخَلْق… فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب ان يعطيك الله من عفوه وصفحه”.
وإن كانت تلك السياسة التي تستحضر قيم الإسلام الحقة قد تراجعت في عصور كثيرة فإن تلك النماذج من عصورها الأولى تزل موحية بما يحب أن يكون، قائدة إليه.