تعدُّ القيمُ الاجتماعيّةُ من أهم ركائز بناء المجتمعات وتوطين الحضارة؛ باعتبارها مبادئ أخلاقية ضابطة للسلوك القويم وما تعارفت عليه الأمم المتقدمة، واتُفِقَ على أنها المعيارُ الأساسُ لتحديد الأهداف التربوية للفرد والجماعة؛ ما يجعلها أصلاً في صياغة المجتمعات، ورابطًا قيميًّا جامعًا، ولازمًا تربويًّا يحدد مقدار الوعي الذي وصل إليه هذا المجتمع أو ذاك.
حارسة للمجتمع
والتربَّيون في مجتمعاتهم، على اختلافها زمانيًّا ومكانيًّا وعقديًّا، يروْن ضرورة التمسُّك بمنظومة القيم والمبادئ الأخلاقية؛ للحفاظ على هُوية المجتمع، ومواجهة عواصف طمسه، وتقوية مناعته ضد المستجدات الهادمة للسياج الأخلاقي؛ ما يحقق البُعد الأمني للأمة ككل.. وهذا ما يحتّم تفعيل هذه القيم كأمر عقدي وفلسفة مقاصدية وصولاً إلى مرحلة تقنينها، مدعومة بالجزاءات الرادعة، كنظامٍ حارسٍ للمجتمع، محافظٍ على أهدافه الكلية ومُثُلهِ العليا، تَقِيْهِ من النزعات الفردية والطيْش والتفسُّخ، وتزوّدهُ بصيغ التعامل فيما بينه وبين أفراده، وبينه وبين الآخر، في نسق واضحٍ جليٍّ يضبط سلوك الكافة.
منظومة القيم الإسلامية
تأسست منظومة القيم الإسلامية بالإجمال على الاعتقاد القلبي والتصور الصحيح للدين، القائم على العمل الصالح؛ (أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) [البينة: 7]؛ فدولة الخلافة الأولى، دولة النبي ﷺ، قامت على أساس إحلال الأُخوة الدينية والإنسانية محلّ العصبية القبلية، وانتهاج مبدأ المساواة بين الجميع أمام القضاء، فالناس سواسية كأسنان المشط، لا فضل لعربي على أعجمي ولا لأعجمي على عربي إلا بالتقوى، وفي ظلال هذه الدولة تمتّع غير المسلم بكامل حريته، وسَلِمَ الأرقّاءُ من الجوْر والعسف، وتقاسم المهاجريُّ والأنصاريُّ الأملاكَ، وتآخى الأوسي والخزرجي وكانا منذ شهور ألدّ الأعداء، وشاطر الغنيُّ الفقيرَ، وتلاشت في وقت قياسي منظومة السادة والعبيد، وهي القانون الأعتى الموروث كابرًا عن كابر.. لقد شكّلت الدولة الوليدة منظومة شاملة تحتوي عشرات القيم، نشرت دعوة الخير في المجتمع الجاهلي الآسن، وحاربت الرذائل والمنكرات، وشجعت الفضائل، وأسست لأمةٍ بارّةٍ قائمةٍ على الأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، والمبادرة لفعل الخير والوعد بالجزاء عليه؛ (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ) [الزلزلة: 7، 8].
مشروع نهضوي كبير
ويقوم هذا المشروع القيمي النهضوي، في مجتمع الخلافة، على ركائز الحضارة الإسلامية العامة المتمثلة في: الإيمان بالله تعالى بكلِّ شُعبِ الإيمان، والعلم بكل فروعه، الديني والمدني، والعمل الجيد المتقن، والاجتهاد والتفنن لتحرير الإنسان من المخاوف والأوهام، وتأمين العيش الآمن والحياة الكريمة التي تليق بآدميته. وفي مجمله يهدف المشروع إلى: تحرير العقل المسلم من أغلال الجمود والتقليد، وترتيب الأولويات بين ميادين الإصلاح، وإصلاح الأصول قبل الفروع، وتنقية الاعتقاد من الخرافات، وإعادة صياغة العقل والوجدان الإسلامي، وتقديم الأمة على الدولة. أما المهمة الأساس للقائمين عليه فهي كبح الموجة الطاغية من مدنية المادة وحضارة المتع، والتصدي للمشروع الغربي الذي أُضيرت منه شعوبُنا الإسلامية ضررًا بالغًا، وإيجاد بديل له قائم على القيم والأخلاق.
قيم رئيسة
وُضعت تصنيفاتٌ عدّة للقيم الإسلامية، وجاءت القيم الاجتماعية قاسمًا مشتركًا بين هذه التصنيفات؛ كونها ضمانة لمجتمع إسلامي عادل مستقرٍّ ذي فضائل، وهي تربو على العشرات، غير أن منها قيمًا أساسية أو رئيسة لا يمكن التفريط فيها عند الحديث عن مجتمع الدولة في الإسلام، أو ما يمكن تسميته «مجتمع الخلافة»؛ نذكر منها:
• «الصدق»: وهو مطابقة ما ينطق به اللسان لما هو مستكنٌّ في القلب والوجدان، وهو ضد الغش، وينافي الكذب، وقد حثّ عليه القرآن كما في قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ) [التوبة: 119].
• «الإيثار»: وهي قيمة سلوكية متقدمة، يتخلى فيها الإنسان عما يحبه لصالح غيره التماسًا للأجر الأخروي؛ (وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر: 9].
• «التعاون على البر والتقوى»: أي التعاون في وجوه الخير؛ من أجل المصلحة العامة والارتقاء بالمجتمع، ويدخل فيها نصرة المظلوم وردع الظالم، ومحاربة الفساد والفاحشة والرذيلة، وسدّ حاجة الفقير، وإغاثة اللهفان إلخ؛ (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ) [المائدة: 2].
• «الحياء»: وهو من القيم المهمة في مجتمع الخلافة، وأحد ضوابط السلوك في البيئة الإسلامية؛ إذ هو رأس الفضائل الأخلاقية وعماد الشُّعب الإيمانية ورائد المجتمع إلى الخير والهدى، يقول النبي ﷺ: «الحياءُ خيرٌ كلُّه» [مسلم].
• «الأمانة والوفاء»: وكلتاهما ذات أهمية في العلاقات الاجتماعية والإنسانية؛ من أجل ذلك شدّد القرآن النكير على من يفرّط فيهما، فالأمانة تعني الأمن، عكس الخيانة، وتعني العدالة في أبهى صورها؛ (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا) [النساء: 58]، والوفاء يعني كمال الخُلق، وتعظيم المسئولية، وتوقير صاحب الحق.
واجبات الخليفة في حماية قيم المجتمع
فضلاً عن أدواره التي أجمع عليها سلفُ الأمة في حفظ الدين، وإقامة الحدود وصوْن محارم الله، وحماية الدولة وتحصين الثغور إلخ –وجب على خليفة الأمة المُختار من رعاياها المسلمين، أن يقوم حارسًا على قيم المجتمع، وأن ينيب من يتولى رقابتها والحضّ عليها، وإلا أثم وفرّط في واجب ولم يعمل بما ورد في الخبر: «كلكم راع، وكلكم مسئول عن رعيته، الإمام راع ومسئول عن رعيته… الحديث» [متفق عليه]؛ ذلك أن الحفاظ على هذه القيم وتربية النشء عليها يقي الأمة أخطار الذوبان وطمس الهُوية، ثم وقوع الاختلال المجتمعي بانتشار المفاسد وشيوع الفقر وأصناف الرذائل.. وهذا لا يعفي آحاد المجتمع ومؤسساته من تبني هذه القيم كمسئولية تشاركية بدافع عقائدي وواجب ديني؛ (لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء: 114].
_______________________________________
كاتب صحفي وباحث مصري