هيمنت دولة الخلافة العثمانية على مساحة واسعة من العالم لمدة 6 قرون، بعد أن توسعت تدريجياً من إمارة ذات إمكانات محدودة مسخّرة لخدمة سلطنة سلاجقة الروم، مروراً بدولة تسيطر على غالبية دول البلقان، وصولاً لإمبراطورية عظمى تسيطر على أراض واسعة من قارات العالم القديم؛ آسيا وأوروبا وأفريقيا، وتمتلك قوة عسكرية واقتصادية قلّ نظيرها في العالم أجمع، لكن جرى عليها ما يجري على الدول في كل مراحل التاريخ وفق نظرية ابن خلدون من أن الدول تولد ضعيفة ثم تقوى ثم تهرم.
تعاقب على الدولة العثمانية 36 سلطاناً، بعضهم كان صالحاً مصلحاً وبعضهم كان سيئاً، وبعضهم خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً، لكن بالعموم كانت الدولة متماسكة في غالب قرون حكمها، وكان الجهاد قائماً، والاستقرار سائداً، والعدل حاكماً، غير أن الضعف حل بالدولة بنهاية القرن الثامن عشر، وبدأت أوروبا تحكم قبضتها على أطراف الدولة العثمانية المترامية إلى أن تم الإجهاز الكامل عليها، وتفتيتها إلى دول ودويلات متناثرة، بعد أن كانت قوة ضاربة.
تعددت الأسباب التي أدت إلى تهاوي الدولة العثمانية، وسقوط آخر سلاطينها السلطان محمد السادس في عام 1922م، لعل من أبرزها: تنامي الثورة الصناعية في أوروبا بينما اقتصاد الدولة العثمانية يعتمد بشكل أساس على الزراعة، في ضعف واضح للاتجاه نحو الصناعة، ولهذا لما اندلعت الحرب العالمية الأولى كان السلاح الأوربي متفوقاً على السلاح التقليدي العثماني.
كذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى ضعف الدولة العثمانية هشاشة اللحمة الوطنية؛ إذ كانت الدولة تضم عرقيات متعددة، ولغات متنوعة مع تباينات واضحة في الاقتصاد في الأقطار التي تسيطر عليها، وعلى حد قول مايكل أي. رينولدز، الأستاذ المشارك في دراسات الشرق الأدنى بجامعة برينستون: إن هذا التنوع الضخم لم يكن يناسب المجتمعات المتجانسة الحديثة، الأمر الذي ساهم في سعي الدول الأوروبية لضم مساحات من الدولة العثمانية إلى أراضيها، فضلاً عن تدخلات من بعض الدول الأوروبية في سياسات الدولة العثمانية بحجة حماية الأقليات، أو حماية المصالح التجارية.
هذا إلى جانب صعود وتيرة التنافس الحضاري بين عديد من الإمبراطوريات؛ كالإمبراطورية الروسية، والإمبراطورية النمساوية، عدا عن البريطانية والفرنسية، المنشغلتين في ظل تلك الأجواء بعقد الاتفاقيات السرية والعلنية، الرامية إلى تقسيم الدول العربية التي كانت تسيطر عليها الدولة العثمانية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا ، ولعل من أبرز هذه الاتفاقيات اتفاقية «سايكس بيكو» التي استولت فرنسا بموجبها على الجزء الأكبر من بلاد الشام، وجزء كبير من جنوب الأناضول، ومنطقة الموصل في العراق، واستولت بريطانيا على منطقة جنوب وأواسط العراق بما فيها مدينة بغداد، وجميع المناطق الواقعة بين الخليج العربي والمنطقة الفرنسية.
ولا يمكن في هذا الصدد إغفال تأثيرات الحرب العالمية الأولى على زيادة ضعف الدولة العثمانية وسرعة تهاويها، فبموجب الاتفاقية التي وقعتها الدولة العثمانية مع ألمانيا حليفتها في الحرب دخلت الدولة العثمانية حروباً دموية، فقدت الدولة على إثرها أعداداً هائلة من الجنود، واستغل البريطانيون دخول العثمانيين الحرب، فاحتلوا العراق، وأعلنوا الحماية على مصر؛ ما تسبب في إحداث خلخلة كبيرة في الهيمنة العثمانية على مناطق ذات طابع جغرافي وجيوسياسي حيوي ومميز.
كذلك من أهم الأسباب التي أدت إلى تهاوي الخلافة العثمانية سيطرة يهود الدونمة على الاقتصاد العثماني، وتسخير الإعلام؛ لتأليب الرأي العام على سياسات الدولة، وكان لهذه الطائفة إسهامات في ثورة عام 1908م التي حرضوا الجيش من خلالها على السلطان، ومن اللافت أن الدولة العثمانية حققت انتصارات واضحة في جل معارك الحرب العالمية الأولى التي شاركت بها، غير أن سيطرة القادة العسكريين التابعين لـ«جمعية الاتحاد والترقي» وغالبيتهم من يهود «الدونمة» على إمدادات السلاح، فضلاً عن الطعام، ولما انقطعت هذه الإمدادات تبدل النصر إلى هزيمة، وانهار الجيش العثماني.
هذا بخلاف أن من هذه الطائفة شخصيات بارزة أدت دوراً كبيراً في زيادة الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي على الدولة العثمانية، لعل من أبرز هذه الشخصيات إيمانويل قره صو، العضو البارز في جمعية الاتحاد والترقي المشبوهة، ومحمد جاويد بيك الذي تولى وزارة المالية وساهم في تسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين، وكذلك مدحت باشا الذي كان والياً على بغداد، وأطاح بالسلطان عبدالعزيز، وكذلك موشيه الآتيني الذي سيطر على تجارة التبغ والمخدرات، ووفر موارد ضخمة لطائفة يهود الدونمة لكي يحققوا أهدافهم المتمثلة في القضاء على الخلافة العثمانية.
ما سبق يلخص أسباب سقوط الدولة العثمانية، ومن ثم فلم يكن للعرب دور مؤثر في حدوث هذا السقوط، بل على العكس كانت لهم مساهمات كبيرة في بناء الإمبراطورية الضخمة من خلال المقومات التي كانوا يملكونها بدءاً من العلماء والقادة والجنود الذين ساعدوا في توسيع رقعة الدولة وتعزيز قوتها، مروراً بسعيهم للحفاظ على الوحدة الإسلامية تحت راية الدولة العثمانية، وصولاً للتضحيات الكبيرة من الرجال في الحروب العديدة التي خاضتها الدولة العثمانية لبسط نفوذها وحماية أراضيها.
أما عما يثار عن دور العرب في سقوط الخلافة العثمانية فلا يخلو من مبالغات، فالثورة العربية الكبرى التي ظلت عامين تقريباً بقيادة الشريف حسين بن علي ضد الدولة العثمانية لم تكن سبباً رئيساً فيما آلت إليه أمور الخلافة العثمانية كما يدعي بعض الكتَّاب والمؤرخين.
صحيح أن الشريف حسين فضلاً عن بعض العرب كانوا واجهة للقوى الأجنبية كبريطانيا وفرنسا ضد الدولة العثمانية، وبتحركاتهم المشبوهة ساهموا في تصاعد المد القومي الذي أدى لاحقاً لظهور حركات تسعى للاستقلال عن الدولة العثمانية، لكن ثورة الشريف حسين بخلاف أنها مدعومة من الحلفاء، لم يكن عدد المقاتلين العرب بها يتجاوز 4 آلاف مقاتل، جلهم غير مدرب على فنون القتال، وبأيديهم أسلحة تقليدية غير متطورة، في حين أن العرب يشكلون نسبة كبيرة في الجيش العثماني بعضهم جاء متطوعاً، وبعضهم أخذ جبراً فيما يعرف تاريخياً بـ«السفر برلك»، فهناك إذن تركيز مفتعل للعرب الذين دفعتهم دول الحلفاء للثورة على الدولة العثمانية مقابل غض الطرف عن تحالفات عربية كثيرة مع الدولة العثمانية، بدءاً من تحالف إمارة حائل المحكومة من آل الرشيد وقتئذ، مروراً بتحالفات القبائل العراقية بقيادة عجمي باشا السعدون، وصولاً لتحالف علي بن دينار، سلطان دارفور، والسنوسي في ليبيا، وغيرهم.
وهناك تجاهل لمرددي مقولة: إن العرب كان لهم دور في سقوط الدولة العثمانية لحجم الجنود العرب الذين ماتوا أثناء المعارك التي خاضتها الدولة العثمانية ضد أعدائها، فعلى سبيل المثال مات في معركة «جناق قلعة» التي شاركت بها قوات فرنسية وبريطانية وأسترالية خلال الحرب العالمية الأولى لاحتلال عاصمة الخلافة العثمانية إسطنبول، ما يقرب من 250 ألف جندي عثماني، بحسب بعض التقديرات، أكثر من ربع هذا العدد من العرب، ماتوا دفاعاً عن عاصمة الخلافة.