ولدت أمة الإسلام يوم أن نزلت أول قطرات الندى من السماء إلى الأرض، حيث كانت قبل ذلك أمة ميتة، لا حضارة لها ولا أثر ولا تأثير، بل إنها كانت أمة تتقاتل على شيء وعلى لا شيء، حتى قال أحدهم متفاخراً بالإفلاس الفكري الذي كانوا عليه: وأحياناً على بكر أخينا إذا لم نجد إلا أخانا!
وقال عمرو ابن كلثوم متفاخراً منتفخاً في عنجهية مقيتة: ونشرب إن وردنا الماء صفواً ويشرب غيرنا كدراً وطيناً
وإذا بلغ الفطام لنا صبي خرت له الجبابر ساجدينا!
ثم سرعان ما تحولت تلك الانحرافات الفكرية إلى واحة من الرحابة والرقي والريادة، وذلك بعد أن نفخ فيها القرآن روح الإيمان المتألق.
وكان الميلاد النوراني للأمة مرتبطاً بتلك الروح التي دبت في مواتها، فأحالته إلى حياة العطاء والاستمرار، وما ذاك إلا لأنهم استقبلوا تلك الروح استقبال المستوعب لرسالتها، المدرك لقيمتها، المتأهب للنهوض بأمانتها.
وإن الأمة مهما تكالبت عليها الأمراض، وأثخنتها الجراح، وتلاشت معالم بقائها، يمكنها أن تنطلق انطلاقة فتية من جديد، لأن معها سر الحياة المتمثل في قوله تعالى: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) (الشورى: 52).
وإن القرآن ما زال بإعجازه غضاً، وزبدة عطائه لم تنقص، بل هي كما هي يوم أن أوحى به جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وإن فرصة رمضان ليست في الصيام فحسب، بل في تجديد بيعة الأمة مع دينها، وأن تعيش وفق مراد ربها.
وإن الأمة ستظل بخير ما بقي فيها القرآن مُبيناً وموجهاً، وفي الحديث: «.. فإنَّ هذا القرآنَ سبَبٌ طرَفُه بيدِ اللهِ وطرَفُه بأيديكم فتمسَّكوا به فإنَّكم لنْ تضِلُّوا ولن تهلِكوا بعدَه أبدًا» (رواه الطبراني في الكبير).
وإن أعظم نصر تقدمه الأمة لمقدساتها، ولإخوانهم المجاهدين في سبيل الله، يكمن في أعادة قراءة القرآن، ولكنها ليست مجرد قراءة سردية، وإنما قراءة ضال يبحث عن سُبل الهداية، ومظلوم ينشد منصة العدل، وقراءة مريض يتطلع إلى الشفاء.
نحتاج إلى أن نعيد ضبط الثوابت والمتغيرات وفق تقعيد القرآن لها، لنتخلص من المفاهيم الخاطئة التي تسربت إلى أفكارنا فأصابتها بالعديد من الآفات المقعدة عن العمل، ونتخلص كذلك من المورثات الثقافية التي أُلصقت بالإسلام وتشريعاته، فأحدثت اضطراباً في الرؤية، وتخبطاً في العمل، وشللاً في الإبداع.
رمضان فرصة لانطلاقة جديدة على نهج الانطلاقات السابقة عبر العصور والأزمنة، حيث جددت الأمة مع الوحي في رمضان بيعتها، وتوثقت أخوتها، وارتقت نفوسها، فنصرها الله في معارك فاصلة، وغزوات ناجعة، حيث أثمرت بركة الإحياء في رمضان نصرة للمظلومين، وهلاكاً للظالمين، ورفعاً لراية الإسلام، ودحراً للطغاة المعتدين.
وإن من واجبات الوقت أن تهرع الأمة إلى سر بقائها، ومفتاح نجاتها، فتعكف على عطاءات آياته، وبينات هداياته، فترسم بها خطة نهوض، ومعايير نجاح.
إن الأمة في أحوج ما تكون لاستدعاء القرآن لإدارة حركة حياتها، وتوجيهها في تلك المنعطفات الخطرة التي تمر بها، فإن أحسنت العودة فقد أمسكت بحبل الاهتداء، وانطلقت لتتبوأ مقعدها اللائق بها، ريادة للأمم، وأخذاً بناصيتها إلى دين ربها، وإخراجاً لها من ظلمات الجاهلية، وتشويه الفطرة الإنسانية، إلى نور الإسلام، وتحقيق الكرامة الإنسانية.
يجب أن نعود إلى القرآن لندرك قوانينه التي أرساها لإدارة صراع الحق والباطل، لنوقن أن الباطل مهما تعاظم فإنه إلى زوال، وأن أهل الحق حينما يتحققون بمؤهلات الحق، يجعلهم الله نوراً يضيء للبشرية طريقها، فتنعم بشرف العبودية لربها، ويجعلها ناراً تحرق حصون الكفر، ورايات الضلال، وأعلام الغواية، قال تعالى: (بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء: 18).
العودة إلى القرآن تضع الأمة أمام واجباتها نحو مقدساتها، حماية وتحريراً وتطهيراً، ونحو أخوتها تعميقاً وتوثيقاً وتفعيلاً، ونحو أعدائها براءة وإعداداً وجهاداً، ونحو أمتها انتماءً، وولاءً ومناصرةً.
ويمكن للأمة أن تستثمر ما يحدث في غزة وفلسطين، فتجدد انطلاقتها بصدق الانتساب للدين، والقيام بحق الأخوة الفاعلة المناصرة المترابطة، فقد أعادت الأحداث للأمة مفاهيمها المسلوبة، فأضحى الحديث عن الجهاد والاستشهاد والتحرير والإعداد مشروعاً مُعلناً مقبولاً، بل ويتهيأ كثير من شباب الأمة، بل رجالاتها وحتى نسائها للمشاركة فيه، بعد أن أمسك الخطباء عن ذكر مآثره، وتردد الكتَّاب عن تسطير المقالات بياناً لمكانته، وجفت ينابيع أقلام المؤلفين خوفاً من أثر التأليف عن أحكامه وفضائله!
إن العودة إلى القرآن توقفنا على قوانين الصراع التي سنها الله تعالى لعباده، لندرك من خلال معرفتها أن معركة الحق والباطل يدبر الله أمرها، ويختار لها مكانها ومسارها ونتيجتها، وعلى من أحسن التأهب أن ينتظر استخدام الله تعالى له، وتشريفه بنعمة الاستعمال، قال تعالى: (وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ) (الأنفال: 7).
فالحقيقة القرآنية الدامغة تؤكد أن الله تعالى ليس بحاجة إلى أحد من خلقه لنصرة الدين، ودحض الطغاة المجرمين، ولكنه سبحانه يمتحن في قلوب عباده صدق اليقين، والتضحية في سبيل الله بكل غال وثمين، قال تعالى: (ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) (الحشر: 4).
إن عودة الأمة إلى القرآن تدبراً وتحاكماً ترسم للأمة سبيل نهضتها، وقوانين نصرها، وشروط تمكينها، فالأمة التي تُحسن التعامل مع القرآن ينير الله بصيرتها؛ (قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ) (الأنعام: 104)، فتدرك أن قوى الطغيان مهما حشدت وجمعت فإن الهزيمة مآلها المحتوم، والخسارة نتيجتها المؤكدة، فقتل الكفار ليس فعل المؤمنين بذواتهم وإمكاناتهم، بل بتقدير الله وتوفيقه، قال تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَـكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَـكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (الأنفال: 17)، وقال تعالى: (قُل لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) (آل عمران: 12).
إن التعامل الصحيح مع القرآن يصحح في عقولنا طبيعة المعركة، وأنها ليست معركة أطماع وثروات فحسب، ولكنها معركة عقيدة ودين، قال تعالى: (وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّىَ يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ) (البقرة: 217).
فالعودة إلى الروح القرآنية تعمق روح الأخوة الإيمانية، فتتطهر القلوب من أدران المشاحنة والنزاع والتعالي، فتتأهب حينئذ لعون ربها ونصره، قال تعالى: (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح: 18).
وإذا صدقت الأمة في سعيها لعودة الروح القرآنية لكي تتمكن بها من البعث الجديد، عليها أن تنطلق من المفاهيم الآتية:
– أن تتعامل مع القرآن على أنه كتاب حاضر ومستقبل، وليس مجرد كتاب تاريخ مُزهر، أو قصص مُبهر، أو عظات متناثرة، بل هو كتاب يشخص أمراض كل عصر، ويضع لها الدواء الناجع، ويستشرف للأمة مستقبلها على مدار العصور والأزمنة.
– أن تطرح على قوانين القرآن ما تختلف فيه، وما تتعرض له، وما ألمَّ بها من أمراض، لتتلقى منه العلاج الناجح، وتستبصر به السلوك الناجح، وبقدر ما عندها من أسئلة بقدر ما يمنحها من إجابة.
– أن نقرأ القرآن باحثين عن سبل المقاومة، وحماية البيضة، وحمل الرسالة، قال تعالى: (شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ) (الشورى: 13).
– أن نقرأ القرآن متحققين بيقين وعده، وخطورة وعيده، وأن نستدعي القرآن لإدارة المعركة بكل تفاصيلها، ونتحول إلى جنود يصطفون حيث يرشدهم القرآن، ويتحركون وفق مراد ربهم، ساعتها سيفتح الله للأمة ما لم يخطر لها على بال.
وللحديث بقية إن شاء الله.