عندما يتعلق الأمر برحلة الإسراء والمعراج التي تعد أحد الأسس في بناء العلاقة الإسلامية بالقدس، فإن الرواية التشكيكية الاستشراقية التي تحاول الترويج للشبهات حول هذه القضية تتراوح أحياناً بين تكذيب حدوث القصة كلها واعتبارها مجرد حلم أو رؤيا، وادعاء وجود أصلٍ يهودي محتمل لهذه القصة! وتحاول هذه الرواية ضرب الرواية الإسلامية من خلال التشكيك في النص القرآني الصريح الذي يذكر هذه الحادثة بالاسم تارةً بادعاء أن المسجد الأقصى المذكور في هذه الآية هو مسجدٌ في منطقة الجعرانة بين مكة والطائف، وتارةً بإلصاق تسمية المسجد الأقصى في القدس اليوم بالأمويين وادعاء أنهم الأصل في هذه التسمية وأنهم أول من اخترع مفهوم المسجد الأقصى في القدس.
أما ادعاء بعض أقطاب هذه الرواية أن رحلة الإسراء والمعراج كانت مجرد حلم فيحاولون أن يُرجِعوه إلى بعض الصحابة الكرام مثل السيدة عائشة رضي الله عنها، ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه، ويعتمدون في ذلك على رواية نقلت عن السيدة عائشة تقول فيها: «ما فقد جسد رسول الله ولكن الله أسرى بروحه»، ورواية أخرى نقلت عن معاوية رضي الله عنه تقول: إنه كان إذا سئل عن الإسراء قال: «كانت رؤيا من الله صادقة»، وكلا الروايتين يرويهما ابن إسحق في سيرته.
ويستغل هؤلاء هاتين الروايتين ليجعلاهما تفسيراً للآية الكريمة في سورة الإسراء: (وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ) (الإسراء: 60)، وهنا يقع المشككون في فخ الانتقائية في الروايات، فهم يأخذون هاتين الروايتين المذكورتين على أنهما الأساس الوحيد في هذه المعادلة، ويغفلون عن حقيقتين مهمتين؛ أولاهما: أن الغالبية العظمى من علماء التاريخ والحديث والتفسير المسلمين قد أعلنوا أن هاتين الروايتين موضوعتان (أي مكذوبتان) لا تصحان عن عائشة ولا معاوية، خاصةً أن الرواية التي وردت عن عائشة وردت في بعض النسخ بلفظ «ما فقدتُ جسد رسول الله»، والمعروف أن النبي صلى الله عليه وسلم تزوجها في المدينة وليس في مكة! كما أن ابن إسحق حين نقل هذه الرواية نقلها بصيغة التضعيف الشديد فقال: «حدثني بعض آل أبي بكر»، وهذه طريقة معروفة عند ابن إسحق في نقل كل ما ورده من باب الأمانة العلمية، ويعرفها كل من درس تاريخ ومنهجية ابن إسحق.
أما ما يتعلق برواية معاوية، فإن الشخص الذي نقل عنه هذه الرواية في كتاب ابن إسحق (واسمه يعقوب بن عتبة بن المغيرة) لم يره أصلاً لأنه توفي عام 128هـ، ولم يكن قد ولد بعد في عهد معاوية، ولم ير من الصحابة إلا السائب بن يزيد من صغار الصحابة فقط كما نقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء»، كما أن معاوية نفسه أسلم في عام الفتح، أي بعد الهجرة بثماني سنين، وبالتالي فإن الرواية نفسها فيها إشكالٌ لأنها تتكلم عن حدثٍ حصل قبل إسلام معاوية بأكثر من عشر سنوات، فكيف يعلق معاوية على هذا الحدث مخالفاً لجميع الصحابة الآخرين الذين شهدوه مسلمين؟
وأما تلك الآية، فإن ابن عباس ترجمان القرآن كان يوضحها فيقول: «كانت رؤيا عين أُريَها رسول الله ليلة أسري به»، فهو العالم باللغة العربية المستعملة في ذلك الوقت، ويأتينا ليوضح النص القرآني باللغة التي كانت مستخدمة في زمانه، ثم يأتينا شخص لا يعرف لغة القرآن في عصرنا هذا ليأخذ اللفظ بلغة القرن الحادي والعشرين.
والعجيب أن غالبية الأكاديميين الغربيين الذين يقولون بذلك ليسوا عرباً أصلاً، ثم يتوقعون منا أن نترك قول من نزل القرآن الكريم في عصرهم وبلسانهم ولهجتهم اليومية ونأخذ عن أصحاب الرواية الاستشراقية اليوم.. هل هذا معقول؟!
والأكثر أهميةً من ذلك أن النص القرآني نفسه يقول: إن هذا الأمر عجيب لأن الآية القرآنية في سورة «الإسراء» تبدأ بالتسبيح المقرون بالاستغراب (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ) (الإسراء: 1)، فكيف يمكن للعقل البشري أن يقبل أن يكون الاستغراب والتسبيح والتعجب لأجل حلم يرى الواحد منا اليوم أغرب منه بكثير، وهو ما تفيد به الروايات المبثوثة بكثرة في المصادر الإسلامية، التي تتكلم عن تكذيب قريش للقصة وتعجبهم منها، فإن كان حلماً فهل يمكن أن يكون مثيراً للاستغراب والاستهجان في المجتمع المكي؟!
إن الانتقائية الواضحة في عمل أصحاب الرواية التشكيكية الاستشراقية هي بحد ذاتها نقطة ضعف هذه الرواية، لأنها تعتمد في الحقيقة على افتراض عدم معرفة الطرف المقابل بوجود روايات ونصوص كثيرة تفضح هذه الانتقائية في اختيار النصوص.