تعد الحبشة (إثيوبيا) ثاني بقعة في العالم تعرف الإسلام بعد مكة المكرمة، وحتى قبل المدينة المنورة، كونها أرض الهجرتين الأولى والثانية للصحابة الكرام فراراً من أهل قريش، فمن الطبيعي أن نجد المسلمين بهذا البلد يحافظون منذ سنوات طويلة على طقوس خاصة لشهر رمضان.
فشهر رمضان يمثل موسماً يعود فيه المهاجرون والمغتربون الإثيوبيون بالخارج إلى مدنهم وقراهم لقضاء الشهر الفضيل بين الأهل، فضلاً عن اهتمامات وقيم وثقافات دينية نادرة وفريدة لمسلمي الحبشة نتعرف عليها في ثنايا هذا التقرير.
استقبال مبكر
يترقب مسلمو إثيوبيا حلول رمضان بشوق كبير، فيقبلون على ابتياع المفارش والسبح والسجادات والجلباب العربي، كما تكتظ الأسواق، خاصة سوق «ماركاتو» وسط العاصمة أديس أبابا، فيما تتزين المساجد بالإضاءة والألوان، ويجري تنظيفها وصيانتها، وفق إفادة الصحفي والباحث الإثيوبي كمال سليمان، حول استعدادات مسلمي إثيوبيا للشهر الفضيل وأهم الثقافات والقيم الرمضانية التي يتميزون بها.
وعبَّر سليمان، في حديث لـ«المجتمع»، عن سعادته لقدوم شهر رمضان، وقال: ما إن يطل شهر رمضان وتبدو في الأفق نفحاته يبادر مسلمو إثيوبيا في الاستعداد لهذا الشهر كغيرهم من مسلمي العالم، إلا أن مسلمي إثيوبيا يتميزون بطريقتهم الخاصة وطقوسهم وعاداتهم الفريدة التي تتجلى مظاهرها في المدن والقرى التي يكثر فيها المسلمون في إثيوبيا.
وأضاف: تتمظهر استعدادات مسلمي إثيوبيا لرمضان خاصة العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، في الجانبين الروحي والمادي، بالنظافة والترتيب في المساجد، والإعداد والتجهيز لمكونات الأطباق الرمضانية الخاصة في المنازل، فالأسواق تشهد حركة دؤوبة وتتزين المساجد والخلاوي وتتحول المحلات التجارية إلى قلعة للإنشاد وتلاوات القرآن الكريم.
ويحرص المسلمون على أجواء رمضانية سلمية تتجلى في الجوانب الروحانية في الصلوات والشعائر الدينية والعبادات وتلاوة القرآن، والاهتمامات المادية من نظافة المساجد وشراء السبح وغيرها من مظاهر الاستعداد، وتبرز قيم التسامح الديني لمسلمي إثيوبيا خلال شهر رمضان حيث يتشارك المسلمون مع المسيحيين الإفطارات الرمضانية.
بدورها، قالت ميسرا حسي: إن سكان الأرياف بمحافظة سلطي ومنطقة حلابا بجنوب إثيوبيا يبدؤون استقبال رمضان بحملات النظافة التي تنتظم بالمساجد قبل أسبوع من حلول الشهر الفضيل، مشيرة إلى أن هذه الثقافة انتقلت الى المدن في منطقة سلطي وحلابا والمدن الإثيوبية الأخرى.
وأوضحت ميسرا، وهي مسؤولة الثقافة والتراث بمتحف سلطي، لـ«المجتمع»، أن استقبال رمضان لم يقتصر على نظافة المساجد والشوارع الرئيسة، حيث نجد في الأرياف المزارعين والرعاة يتسابقون في تجهيز الوجبات لأئمة المساجد ويوفرون لهم مخزون شهر رمضان بالكامل حتى يتفرغ الأئمة والمشايخ وحفظة القرآن لإقامة الدروس وحلقات الذكر وصلاة التراويح.
الإفطار والتراويح
ويقول الباحث الإثيوبي كمال سليمان: إن لرمضان في أديس أبابا والمدن الأخرى تأثيره على مجمل طبيعة الحياة، ويظهر ذلك بطريقة تشبه إلى حد ما المظاهر الرمضانية في المدن العربية، حيث يبدأ ليل رمضان بارتفاع صوت الأذان لصلاة المغرب وتناول الإفطار، وصلاة العشاء والتراويح، ويسهر المسلمون بمختلف الأعمار مجتمعين أو متفرقين في جلسات ذكر وأنس.
وتمتلئ مساجد العاصمة بالمصلين لأداء صلاة التراويح، خاصة مسجدي النور وبنين، كما تجد ذات التزاحم في مساجد المدن الرئيسة الكبرى، جيما وأداما وبالي روبي بإقليم أوروميا ودسي وبحر دار بإقليم أمهرة، إلى جانب هرر وجيغجيغا شرقي إثيوبيا، واوربي وحلابا بجنوب البلاد.
وأصبحت معظم المساجد في إثيوبيا تختم القرآن بنهاية الشهر الكريم، وذلك بفضل هجرة قطاعات كبيرة من الإثيوبيين إلى الدول العربية والخليجية؛ حيث تأثروا بتلك البيئات وأصبحوا يتسابقون لحفظ القرآن وتلاوته بأعذب الأصوات.
للعام الثاني، يؤم القارئ السوداني الشيخ الزين محمد أحمد المصلين في التراويح بعدد من مساجد أديس أبابا، بدأها في مسجد الأقصى بحي «أرات كيلو» أحد أعرق أحياء العاصمة، كما أمّ المصلين في التراويح بالنادي السوداني وسط العاصمة أديس أبابا.
جلسات صُلح
وأشار كمال إلى التسامح بين الإثيوبيين بمختلف معتقداتهم، وقال: إن رمضان في إثيوبيا من المناسبات الدينية ذات التأثير الاجتماعي الكبير ليس بين المسلمين فحسب حيث التراحم والتكاتف، وإنما حتى المسيحيين الذين يشاركون أخوتهم المسلمين في الإفطارات العامة والخاصة.
وأوضح أن رمضان يعد فرصة للتعاطف والمودة والتراحم بين الفقراء والأغنياء من المسلمين.
وفي القرى يجتمع الأهالي كل ليلة في أحد البيوت الكبيرة حيث يتولى أهل البيت تجهيز مجلس القهوة والعشاء ويختلط الكبار مع الصغار والأغنياء والفقراء وتدور الأحاديث في شتى المواضيع وعادة ما يحضر هذه المجالس الرمضانية شيوخ يوجهون المجالس بأحاديثهم.
وتسهم هذه المجالس في حل الكثير من المشكلات ذات العلاقة بالشأن العام، والمشكلات والخصومات الخاصة بالأسر وتلك التي تنشأ بين بعض الأشخاص، حيث يحرص الأهالي على معالجة الخصومات مستغلين عظمة الشهر وخصوصيته.
وأضاف: وفيما يختص بالتعايش السلمي والتسامح، تجد أن المسيحيين يتسابقون في مشاركة المسلمين في مائدة الإفطار وتتبادل الأسر المسيحية والمسلمة الوجبات خاصة الشوربات المصنوعة من الشعير والتي يهتم بها المسلمون في رمضان دائماً.
ويستقبل مسلمو إثيوبيا أوّل أيام شهر رمضان الكريم، وسط أجواء احتفالية ومبادرات صلح واسعة، وعلى المستوى الرسمي انتظم المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية بإثيوبيا هذا العام في سلسلة مصالحات قبيل قدوم الشهر الكريم، وقدم مبادرات سلام وتصالح بين إقليمي عفار والصومال في شرق إثيوبيا، قبل أن ينظم إفطاراً لموظفيه بمشاركة السفراء والدبلوماسيين لسفارات الدول الإسلامية بأديس أبابا.
الأطباق الرمضانية
وحول أهم الأطباق الرمضانية تقول ميسرا حسين: إن المرأة الإثيوبية المسلمة تعمل على توفير المواد التي تجهز وجبات رمضان منذ وقت مبكر بتجهيز وإعداد مكونات الأطباق الرمضانية الخاصة، وتمثل الشوربة (الحساء) أحد أهم الأطباق إلى جانب السنبوسة والمكسرات، مشيرة إلى أن الحبوب كالشعير، والدخن، والحلبة، أساسية في صناعة المرق والمشروبات الساخنة، إلى جانب تجهيز البهارات والشطة الحارة التي تمتاز بها المائدة الإثيوبية.
وتطرقت إلى أبرز العادات والتقاليد لدى قومية سلطي ذات الغالبية المسلمة خلال رمضان، مستعرضة دور المرأة، وقالت: إن الأمهات لدى قومية سلطي يتهيأن لشهر رمضان بتجهيز المنزل وإعادة ترتيبه قبل يومين.
وأوضحت أن أهم شيء في إعداد الوجبات الرمضانية هو التواصل مع الجيران للتنسيق في إعداد الإفطار الجماعي وتبعاً لذلك ترتب الأطباق الرمضانية في المنزل.
وأضافت أن كل سيدة منزل تبحث عن الأسرة التي ستفطر معها من جاراتها وإذا لم يوجد تفطر مع المسافرين أو أي شخص قادم من المسجد عقب صلاة المغرب.
ولفتت الى أن جلسة الإفطار يتم إعدادها بشكل دائري يتناوب عليها الجيران شريطة عدم الاختلاط بين الرجال والنساء، وهذا جزء من ثقافة شعب سلطي.
القهوة سيدة المجالس
وأكثر ما تعرف به ثقافة قومية سلطي بجنوب إثيوبيا في شهر رمضان، هو شرب القهوة التي تمثل سيدة الأطباق والموائد الرمضانية، وقالت: إن القهوة هي أهم مشروب حيث يتحلق المصلون يتوسطهم الشيخ وكبار الأئمة ويتبادلون النقاشات حول القضايا الاجتماعية داخل المسجد، وأشارت الى أن القهوة تعد في المنزل ركناً أساسياً خاصة في رمضان حيث تجتمع حولها الأسرة.
والقهوة أو «بنا» كما تُعرف باللغة الأمهرية تحتل مكانة خاصة بين الإثيوبيين، المسلمين والمسيحيين، الفقراء والأغنياء، إذ يرون أن البركة توجد في جلسة تناول البن، وسط تجمع أفراد الأسرة أو الأصدقاء.
وتمثل جلسة القهوة في شهر رمضان مزيجاً من الحياة الثقافية والاجتماعية والدينية، للشعب الإثيوبي، حيث تشكل جلسة القهوة أهم طقوس وعادات رمضان، فبعد الإفطار مباشرة تقدم صاحبة المنزل القهوة التي يحرص جميع أفراد العائلة على التحلق حولها.