مطالب الأطفال الصغيرة وكيف يتم التعامل معها
يطلب الطفل من ذويه أمراً فيتلبثون عليه، أو ينصرفون عنه ليصرفوه عن طلبه أو يتجاهلونه وطلبه معًا لعله يتلهى، ويتشاغلون عنه رجاء أن يسلو وينسى، ولكنه لا يلبث أن ينفجر في نوبة من الصراخ والعويل والنحيب والدمدمة وضرب الأرض بقدميه غضبًا أو ضرب ذويه بيديه ورجليه وبكل ما تحمله نفسه الصغيرة من غضب وغيظ وحنق حتى يستجاب لطلبه رحمة وشفقة من والديه، أو كافليه أو طلبًا لراحة البال وتجنب الصداع المرهق، وهنالك يستقر، وتهدأ نفسه ويذهب غضبه وكأنه لم يكن، ولا تلبث ثورته العارمة أن تتحول إلى فرحة طفولية غامرة نزقة تعبر عنها جوارحه وقسمات وجهه البريئة، وتراه يضحك ضحك الظافر آب من معركة حامية الوطيس منتصرًا بعد جهد جهيد.
قد يرى المربون أو خبراء التربية في سلوك الطفل المشار إليه آنفًا، وسلوك والديه معه ما يرون، وقد يوصون بالاستجابة للطفل عندما يستبد في طلب تحقيق رغباته ونزواته بقدر وحذر وحكمة، وقد لا يرون الاستجابة إطلاقًا لتلك النزوات بعد عبوره عتبة طفولته الأولى وبدء إدراكه لذاته، وبخاصة حين تقترن مطالباته بأساليبه المزعجة في طلبها.
وربما ينادي المربون الآباء بألا ينساقوا خلف ضعف مشاعرهم الأبوية فيسارعون بتلبية رغبات طفلهم حين تتملكه عرة من عرات البكاء والدمدمة مهما بدت مؤلمة لمشاعرهم الأبوية؛ إذ باستجابتهم انسياقاً وراء دواعي الرحمة أو طلبًا للسكينة وراحة البال من صياح الصبي المزعج أو خجلًا من تصرف الطفل أحيانًا أمام الأغراب بهذا الشكل الذي قد يشي بسوء تربيتهم له.
إنهم باستجابتهم للطفل في ذلك الوقت إنما يضرونه أكثر مما ينفعونه؛ إذ يعززون لديه ذلك السلوك الطفولي المستبد عند غلبه الحاجة عليه، فينشأ الطفل غير قادر على ضبط نفسه وكبح جماحها عند استبداد إلحاح الرغبة عليها؛ فيسعى نحو حاجته مشروعة أو غير مشروعة بما هو قريب من تلك الأفعال الطفولية لتستريح نفسه وتستعيد توازنها واستقرارها، فيكبر وتكبر معه مشاعر الأنانية والدوران حول ذاته فيظن الناس جميعًا مسخرين لتحقيق رغباته، وما عليه إلا أن يُحدث شيئاً من الجلبة والضجيج المزعج طلبًا لحاجته فلا يلبث حتى يحصل عليها.
وقد يكون ما يذهب إليه خبراء التربية في توجيههم للمربين والآباء صحيحاً في مجمله، إلا أن الوجه الآخر من العملة يرينا أن الأمر لا يخلو من تفصيل، فقد تكون حاجة الطفل فعلًا مما لا يسعه فقده، ويتعين على كافليه توفيره وربما كانت ثورته نوعًا من لفت الانتباه وطلب الاهتمام ممن شغلتهم عنه صوارف الحياة ومطالبها التي لا تنتهي، لكن الحقيقة تبقى أن سلوك الكبار في كثير من الأحيان أو فيها جميعًا هي من آثار تلك التربية الخاطئة الأولى التي لم يسلم من آثارها أحد –فيما أزعم– وإن كنت لا أنكر أثر التربية اللاحقة على نحو أو آخر.
ولكن.. ماذا عن مطالب الكبار الصغيرة؟
كثيرون منا تستفزهم مطالب صغيرة أحياناً فينفقون فيها ما شاء الله أن ينفقوا من الجهود حتى يفوزوا بمأربهم، وإنك ليأخذك العجب من أفعال بعض من آتاهم الله مالًا فراحوا ينفقونه في إرضاء شهوات نفوسهم الصغيرة! فبعضهم أنفق ملايين لقضاء أيام مع ممثلة أو عارضة أزياء! والآخر ينفق أمولًا طائلة للاحتفال بعيد ميلاد كلبته أو عنزته أو ناقته ويلبسها من الحلي والجواهر ما يثير السخرية والشفقة معًا! وثالث يشتري بالأموال الطائلة لوحة فنية لمجرد التباهي وإن لم يكن من أهل ذلك المجال في قليل أو كثير! ورابع وخامس وسادس والحبل على غاربه، وكلها أخبار مما طيرته وكالات الأنباء وصار حقائق بلقاء.
إنها النفوس الصغيرة، ومآربها الصغيرة الحقيرة التي يبدو أحدهم عبدًا لها تملكه ولا يملكها، وتحركه ولا يحركها، ويا ويل أمة يكثر بين أبنائها صغار النفوس ذوو الهمم القاصرة، والمطالب الصغيرة التافهة!
وإن تعجب فعجب ما يذهب إليه هؤلاء الصغار حين يخاصمون من يظنون أن حاجتهم عنده، فإنهم كثيرًا ما يبالغون ويفجرون في تلك الخصومة حتى يحققوا مأربهم، ويصلوا لغايتهم بإرغام الطرف المقابل على التسليم لأهوائهم، فإذا حصل أحدهم المرغوب تجتاح نفسه تلك الفرحة الطفولية العارمة، وتراهم يحتفلون بتلك الانتصارات التافهة في تلك المعارك الوهمية الملهية المضلة عن كل كبير مما يستحق أن توجه إليه الوجوه والجهود.
السقوط الكبير مع إدمان الانتصارات الصغيرة
على أي حال، لا بأس أن يفرح المرء ببعض الانتصارات الصغيرة التي أراها ضرورة من ضرورات شعور المرء بالرضا عن نفسه، وتمتعه بالصحة النفسية، والقدرة على الاستمرار في الحياة؛ لأن ذلك ربما مما يمتد لطفولته الأولى بوشائج لا فكاك منها، لكن أن تظل الحياة حكرًا ونهبًا لتلك المعارك الصغيرة وحدها، والانتصارات الطفولية عبرها يستهلك فيها سني عمره الغالية؛ فهو الخطأ بعينه والضلال المبين.