لا شك أن فجوة كبيرة وهوّة سحيقة بين العلوم التي يتلقاها شباب الأمة اليوم وعلمائها الثقات من أئمة القراءات الذين جعلهم الله سبباً في حفظ كتابه الكريم، فكانت لهم المكانة والقبول بين علماء الأمة الحداثيين وعامتها.
ومر بنا من قبل ترجمة لرجل من رجال القرآن وهو ذو النورين عثمان بن عفان رضي الله عنه، والآن مع أحد تلاميذ أمير المؤمنين عثمان وهو من هؤلاء العظماء الذين حملوا القرآن في صدورهم عاشوا به وله ليصل إلينا كما أنزل على رسول الإنسانية محمد صلى الله عليه وسلم.
وهو الإمام نافع بن عبدالرحمن بن أبي نعيم الليثي(1)، إمام القراء في دار الهجرة وطيبة الطيبة، يلقبه علماء القراءات بـ«ذي الرتبة»؛ أي صاحب المكانة والمنزلة في علمه وفنه.
ولد في خير القرون، القرن الأول عام 70هـ في خلافة عبدالملك بن مروان، وهو من الطبقة الثالثة بعد الصحابة، وقد ولد بالمدينة المنورة، وتلقى القراءات عن شيوخ التابعين، ومنهم عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، وأبو جعفر القارئ، وشيبة بن نضاح، ويزيد بن رومان، ومسلم بن جندب، وقيل: إنه قرأ على سبعين من التابعين، وقرأ «الموطأ» على الإمام مالك، وقرأ عليه الإمام مالك القرآن، وانتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة، وقال الإمام بن الجزري: «وقد تواتر عندنا أنه قرأ على الخمسة الأول»(2)، وهو أحدُ القراء السبعة الأعلام، وقد انتشرت قراءته في الأمصار، واستقرت أكثرَ في المغرب الأقصى، واعتنى بها العلماء المغاربة عناية كبيرة فيما يعرف بقراءة ورش.
تلامذته ورواته
روى عنه عيسى مينا قالون الراوي المشهور، وكذا عثمان بن سعيد الملقب بـ«ورش المصري»، وأبو إسحاق.
مكانته بين العلماء
قال الليث بن سعد: حججت سنة ثلاث عشرة ومائة وإمام الناس في القراءات بالمدينة نافع، وقال مالك لما سئل عن البسملة: اسألوا كل علم أهله ونافع وإمام الناس في القراءة، وقال يحيى بن معين: نافع ثقة، وقال ابن كثير: انتهت إليه رئاسة القراءة في المدينة، وقال الشيخ عبدالفتاح القاضي: قراءة نافع متواترة، وليس أدل على تواترها أنه تلقاها عن سبعين من التابعين(3).
قال الذهبي: وقد اشتهرت تلاوة نافع على خمسة، هم: عبدالرحمن بن هرمز الأعرج، صاحب أبي هريرة، وأبو جعفر يزيد بن القعقاع أحد العشرة القراء، وشيبة بن نصاح، ومسلم بن جندب الهذلي، ويزيد بن رومان»(4).
وللدكتور راغب السرجاني في موقعه ترجمة رائعة للإمام نافع يتحدث بها عن مكانته بين العلماء وأقوالهم فيه فيقول:
روى إسحاق المسيبي عن نافع قال: أدركت عدة من التابعين فنظرت إلى ما اجتمع عليه اثنان منهم فأخذته، وما شذ فيه واحد تركته، حتى ألفت هذه القراءة، وقال أبو قرّة موسى بن طارق: سمعت نافعاً يقول: قرأت على سبعين من التابعين.
وقال أبو عبيد القاسم بن سلام (ت 224هـ): وإلى نافع صارت قراءة أهل المدينة، وبها تمسكوا إلى اليوم، وقال مجاهد بن جبر: كان الإمام نافع الذي قام بالقراءة بعد التابعين بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وكان عالماً بوجوه القراءات متبعاً لآثار الأئمة.
وقال أبو بكر المقورسي: وأقرأ الإمام نافع الناس دهراً طويلاً نيّفاً عن سبعين سنة، وانتهت إليه رئاسة القراءة بالمدينة المنورة، وصار الناس إليها.
وقال الإمام مالك: نافع إمام الناس في القراءة، وقراءته سنة.
وقال الأصمعي عن فلان: أدركت المدينة سنة مائة، ونافع رئيس في القراءة.
وقال عبيد بن ميمون التبّان: قال لي هارون بن المسيب: قراءة من تقرئ؟ قلت: قراءة نافع، قال: فعلى من قرأ نافع؟ قلت: على الأعرج، وقال الأعرج: قرأت على أبي هريرة رضي الله عنه.
وقال الذهبي: روي أن نافعاً كان صاحب دعابة، طيب الأخلاق، وثقه يحيى بن معين، وقال أبو حاتم: صدوق، وقال ابن عدي: لنافع عن الأعرج نسخة مائة حديث، حدثنا بها جعفر بن أحمد، وله نسخة أخرى أكثر من مائة حديث، عن أبي الزناد، عن الأعرج رواها ابن أبي فديك عنه، ولم أر له شيئاً منكراً.
أقوال العلماء في قراءة الإمام نافع
ذكرت المصادر أن الإمام نافعاً قرأ على سبعين من التابعين، نذكر منهم: أبا جعفر يزيد بن القعقاع (ت 128هـ)، وعبدالرحمن بن هرمز الأعرج (ت 117هـ)، وشيبة بن نصاح القاضي (ت 130هـ)، ويزيد بن رومان (ت 120هـ)، ومسلم بن جندب الهذلي (ت 130هـ)، وقد تلقى هؤلاء الخمسة القراءات عن ثلاثة من أصحابه، وهم: أبو هريرة، وعبدالله بن عباس، وعبدالله بن عياش، وقد قرأ هؤلاء الثلاثة على أُبيّ بن كعب، وقرأ أُبيّ بن كعب على رسول الله صلى الله عليه وسلم.
من هذا يتبيّن أن قراءة الإمام نافع صحيحة ومتواترة، ومتصلة السند بالنبي صلى الله عليه وسلم.
وقد تتلمذ على الإمام نافع خلق كثير لا يحصون: من المدينة المنورة، ومن مصر، ومن البصرة، ومن الشام وغير ذلك من بلاد المسلمين، نذكر منهم: الإمام مالك بن أنس، إمام دار الهجرة (ت 179هـ)، وأبا عمرو بن العلاء البصري (ت 154هـ)، وإسماعيل بن جعفر بن وردان (ت 160هـ)، وسليمان بن جماز (ت 170هـ)، وعيسى بن مينا قالون (ت 220هـ)، وأبا سعيد عثمان المصري ورش (ت 197هـ)، وقال الذهبي: روى نافع الحديث عن الأعرج، وعامر بن عبدالله ابن الزبير، وأبي الزناد.
وقد روى عنه: الليث بن سعد، وخارجة بن مصعب، وابن وهب، وأشهب، وخالد بن مخلد.. وغيرهم.
وروى الذهبي قال: لما حضرت نافعاً الوفاة، قال له أبناؤه: أوصنا، قال: «اتقوا الله وأصلحوا ذات بينكم وأطيعوا الله ورسوله إن كنتم مؤمنين».
وقال قالون: كان نافع من أطهر الناس خلقاً، ومن أحسن الناس قراءة وكان زاهداً، جواداً، صلى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة(5).
سر الطِّيب الذي لا يمسه
ذكر الإمام الجزري عن الشيباني قال: قال رجل ممن قرأ على نافع: إن نافعاً كان إذا تكلم يشمّ من فِيهِ رائحة المسك، فقلت له: يا أبا عبدالله أو يا أبا رويم، تتطيب كلما قعدت تقرئ الناس؟ قال: ما أمس طيباً ولا أقرب طيباً، ولكني رأيت فيما يرى النائم النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ في فيّ، فمن ذلك الوقت أشمّ من فيّ هذه الرائحة، وهذا ما أشار إليه الإمام الشاطبي في البيت المذكور آنفًا، وقال المسيبي: قيل لنافع: ما أصبح وجهك وأحسن خلقك؟ قال: فكيف لا أكون كذلك وقد صافحني رسول الله صلى الله عليه وسلم وعليه قرأت القرآن يعني في النوم؟! وقال قالون: كان نافع من أطهر الناس خلقاً ومن أحسن الناس قراءة وكان زاهداً جواداً صلى في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم ستين سنة(6).
رحم الله الإمام نافع المدني الذي عمر طويلاً حيث توفي عام 169هـ، وقد أقرأ نافع الناس دهراً طويلاً أكثر من ستين عاماً وكان إماماً بمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
________________________
(1) نافع بن أبي نعيم، الإمام، حبر القرآن أبو رويم -ويقال: أبو الحسن، ويقال: أبو نعيم، ويقال: أبو محمد، ويقال: أبو عبدالله بن عبد الرحمن- مولى جعونة بن شعوب الليثي، حليف حمزة عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقيل: حليف العباس أخي حمزة، أصله أصبهاني (سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي، ج7، ص 337).
(2) سير أعلام النبلاء للإمام الذهبي.
(3) موقع «قصة الإسلام»، للدكتور راغب السرجاني.
(4) سير أعلام النبلاء.
(5) د. راغب السرجاني في تراجم موقع «قصة الإسلام».
(6) غاية النهاية في تاريخ القراء، للإمام الجزري.