تتكون عملية الاجتهاد علمياً وإجرائياً من أركان لا يمكن أن تتم إلا بها كما تقتضيه حقيقةُ مفهوم الركن؛ حيث لا يتصور الشيء ولا يقوم إلا به، وهذه الأركان هي: فقه الواقعة محل الاجتهاد، وفقه النص الشرعي، وفقه تنزيل النص على الواقعة، وفقه رعاية المآلات واعتبارها.
فهذه الألوان أو الأركان اللازمة للقيام بعملية الاجتهاد علمياً وإجرائياً هي ألوان تدخل ضمن الفقه الحضاري، ونعني بالفقه الحضاري كل ما يجعل للفقه والفتوى والاجتهاد “حضوراً”، و”تأثيراً” في الواقع المعيش، ولا يمكن أن يتحقق هذا إلا برعاية هذه الأركان.
والحق أننا نعاني معاناة كبيرة من الركن الأول الذي هو فقه النص الشرعي؛ فهناك مدارس واختلافات تضيق وتتسع في النسب المتفاوتة لفهم النص الشرعي، ونعاني بالدرجة نفسها من اختلافات متباينة في تقدير توصيف الواقعة محل الاجتهاد بمدى الدقة في الوقوف على ملابسات الواقعة وحقيقة واقعها بجوانبه المختلفة، وكذلك نعاني من التفاوت بين الفقهاء والمفتين في مدى التمكن من مهارة التنزيل (تنزيل النص على الواقع)، ومن التفاوت والتباين في تقدير فقه المآلات التي سيؤول إليها التنزيل بناء على القدرة في إدراك الواقع وموازناته وما يؤول إليه بدقة وتحقيق.
أولاً: تعريف فقه المآلات:
في اللغة يرجع جذرها إلى “أول”، قال ابن منظور: “أول: الأَوْلُ: الرُّجُوعُ. آلَ الشيءُ يَؤُولُ أَوْلًا ومَآلًا: رَجَع. وأَوَّلَ إِليه الشيءَ: رَجَعَه. وأُلْتُ عَنِ الشَّيْءِ: ارْتَدَدْتُ.. قَالَ أَبو مَنْصُورٍ: يُقَالُ أُلْتُ الشيءَ أَؤُولُهُ إِذا جَمَعْتَهُ وأَصلحته فَكَانَ التَّأْوِيل جَمْعَ مَعَانِي أَلفاظ أَشكَلَت بِلَفْظٍ وَاضِحٍ لَا إِشْكَالَ فِيهِ. وَقَالَ بَعْضُ الْعَرَبِ: أَوَّلَ اللهُ عَلَيْكَ أَمرَك أَي جَمَعَه، وإِذا دَعَوا عَلَيْهِ قَالُوا: لَا أَوَّلَ اللهُ عَلَيْكَ شَمْلَك”(1). وقال ابن فارس: “(أَوَلَ) الْهَمْزَةُ وَالْوَاوُ وَاللَّامُ أَصْلَانِ: ابْتِدَاءُ الْأَمْرِ وَانْتِهَاؤُهُ”(2). فالمآل في اللغة هو المرجع والجمع والعاقبة، سواء كان ذلك في بداية الأمر أم منتهاه.
أما في الاصطلاح، فقد قرر د. عبدالرحمن السنوسي أنه لم يجد أحداً عرَّف المآل تعريفاً يضبط حقيقته ويوضح ماهيته، وعزا ذلك لقلة العناية بالموضوع، ثم عرفه قائلاً: “هو تحقيق مناط الحكم بالنظر في الاقتضاء التبعي الذي يكون عليه عند تنزيله من حيث حصول مقصده والبناء على ما يستدعيه ذلك الاقتضاء”(3).
وعرفه د. أحمد الريسوني فقال: اعتبار المآل في الاصطلاح الفقهي الأصولي، يعني استشراف التطورات والتداعيات التي يمكن أن يؤول إليها الفعل مستقبلاً، ثم إدخالها في حيثيات الاجتهاد والحكم على ذلك الفعل؛ أي أن الاجتهاد يأخذ بعين الاعتبار الحال والمآل، الحاضر والمستقبل، فمراعاة ما تؤول إليه الأمور في مستقبلها المتوقع، وعدمُ الاقتصار على واقعها وحاضرها ونتائجها الفورية، هو المقصود بقاعدة “اعتبار المآل”(4).
أما في اصطلاح الشاطبي، فقد تتبعه د. فريد الأنصاري في دراسته القيمة، ووصل إلى أن “المآل” عنده أصل كلي يقتضي اعتبارُه تنزيلَ الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالاً(5)، وهو دليل جزئي يقتضي اعتبارُه تنزيل الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالاً(6)، وهو الجزاء الأخروي المترتب عن الأعمال التكليفية أمراً ونهياً(7)، وهو المصالح والمفاسد الدنيوية المترتبة عن دخول المكلف في الأسباب بإطلاق(8).
فالمآل أو مآل الفعل أو مآل الفتوى هو ما يترتب على الفعل أو القول أو التصرف أو الفتوى من مصالح أو مفاسد، ورصد ذلك أو استشرافه من خلال الخبرة بفقه الواقع وموازناته، وهذا لا يستطيعه الفقيه المشتغل بالكتب والأوراق فقط، وإنما يقوم به –حق القيام– الفقيه المنشغل بقضايا الواقع والمتفاعل مع قضايا الأمة، الفقيه الذي يعيش في الميدان ويتحرك فيه.
ثانياً: أهمية فقه المآلات:
كما أشرنا سلفاً، فإن “اعتبار المآل” ورعايته هو أحد الأركان الأربعة في عملية الاجتهاد، وكفى بذلك أهمية، ومن هنا فإن الإمام الشاطبي يرى ضرورة استشراف المآلات قبل الإفتاء؛ حيث قرر وهو يتحدث عن رتبة العالم “الرباني، والحكيم، والراسخ في العلم، والعالم، والفقيه، والعاقل، وكيف أنه يربي بصغار العلم قبل كباره، ويوفي كل أحد حقه حسبما يليق به، وقد تحقق بالعلم وصار له كالوصف المجبول عليه، وفهم عن الله مراده من شريعته”.
قال: “ومن خاصيته أمران؛ أحدهما: أنه يجيب السائل على ما يليق به في حالته على الخصوص إن كان له في المسألة حكم خاص.. والثاني: أنه ناظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات”(9).
وهو يقرر أهمية هذا الفقه وأنه معتبر، وأن رعايته مقصودة شرعاً، يقول: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً كانت الأفعال موافقة أو مخالفة، وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بالإقدام أو بالإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل، مشروعاً لمصلحة فيه تُستجلب، أو لمفسدة تُدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد فيه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به”(10)، ويصفه بأنه “مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”(11).
وهذا يشير إلى أن رعاية المآلات وورود مجالها صعب على المجتهد؛ إذ إن تقدير المآلات يحتاج لقدرات عقلية ونفسية وخبراتية خاصة، ورغم هذا فهو عذب المذاق لما فيه من المعاناة اللذيذة والصعب اللذيذ، لكنه مع هذه المعاناة محمود العاقبة؛ لأنه يحسب حساب ما سيؤول إليه القول أو التصرف، ومن حسب حساب المآل كان سالماً في الحال والاستقبال، كما أن عبارة الشاطبي تشير إلى أن اعتبار فقه المآلات ورعاية المجتهد له جارٍ على مقاصد الشريعة، فهو جزء لا يتجزأ منها، كما ستأتي الإشارة بعد قليل.
ثالثاً: علاقة المآلات بالأحكام الوضعية:
إن تحديد مآلات الأفعال والتصرفات، والوصول إليها والوقوف عليها، لا يمكن أن يتم إلا بعدة أمور، من أهمها فقه الأحكام الشرعية الوضعية، من أسباب وشروط وموانع وصحة وفساد وعزائم ورخص.
والحكم الوضعي -كما هو مستفيض في كتب الأصول- هو: “خطاب الله المتعلق بجعل شيء سبباً لشيء آخر، أو شرطاً له، أو مانعاً منه، أو صحيحاً، أو فاسداً”(12).
فوجود الأسباب وتحقق الشروط وانتفاء الموانع هي الوعاء الذي تتنزل فيه الأحكام، وهذا التنزل هو الذي سيترتب عليه الوقوف على طبيعة الحال ومعرفة المآل؛ إذ الأحكام لن تتنزل في الفراغ، وإنما في واقع، وهذا الواقع متلبس بمجرياته من شروط وأسباب وموانع، وصحة وفساد، وعزائم ورخص، ومن ثم كانت العلاقة وثيقة بين فقه المآلات، والأحكام الشرعية الوضعية.
والحق أن الأحكام الوضعية تحتاج إلى استثمار أعظم مما هو موجود في كتب الأصول، فالمشهور عند ذكرها يضرب الأصوليون أمثلة لها بـ: زوال الشمس وسائر أوقات الصلوات أسباب لوجوبها، وطلوع الهلال سبب لوجوب رمضان، وصلاة العيدين والشك والحيض موانع من الصلاة والصوم، والبلوغ شرط لوجوبها، وحؤول الحول شرط لوجوب الزكاة.. وهكذا.
في حين أنها أحكام تمثل حاضنة الشريعة الإسلامية في الواقع، ومحيط تطبيق أحكامها، والتدرج في التطبيق منوط بهذه الأحكام الوضعية، ومنها تتفجر الدوائر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية وغيرها، والحاصل أنه بإمكاننا إحداث ثورة كبيرة في علوم الاجتماع والإنسان من خلال ما يتضمنه علم الأصول من ثروات عبر تفعيل الأحكام الوضعية في مناحي الحياة بدوائرها المختلفة.
____________________________________
(1) لسان العرب لابن منظور: 11/32-33. دار صادر – بيروت، الطبعة: الثالثة – 1414هـ.
(2) معجم مقاييس اللغة لابن فارس: 1/158. تحقيق عبدالسلام محمد هارون. دار الفكر. 1399هـ – 1979م.
(3) اعتبار المآلات ومراعاة نتائج التصرفات للدكتور عبدالرحمن السنوسي: 19. دار ابن الجوزي. الطبعة الأولى. 1424هـ.
(4) القواعد الأساس لعلم مقاصد الشريعة: 77. دار الكلمة. القاهرة. الطبعة الأولى. 1436هـ/ 2015م.
(5) المصطلح الأصولي عند الشاطبي لفريد الأنصاري: 428. دار السلام. القاهرة. الطبعة الثانية. 1435هـ/2014م.
(6) المصدر السابق: 436.
(7) المصدر السابق: 437.
(8) المصدر السابق: 438.
(9) الموافقات: 5/ 233.
(10) المصدر السابق: 5/ 177.
(11) المصدر السابق: 5/ 178.
(12) انظر مثلاً: المختصر في الأصول لابن اللحام: 57. طبعة جامعة أم القرى، والوجيز في أصول الفقه الإسلامي للدكتور محمد الزحيلي: 1/ 387. دار الخير. دمشق. الطبعة الثانية. 1427هـ – 2006م.