مع اقتراب شهر رمضان المبارك، جددت قوات الاحتلال برج المراقبة والتجسس الذي تنصبه على المدرسة التنكزية على سطح الرواق الغربي للمسجد الأقصى، وركبت مزيداً من الكاميرات على مئذنة السلسلة وبابي المطهرة والسلسلة، ونصبت حواجز حديدية لتقييد الحركة عند باب الأسباط الذي يشكل المدخل الأقرب للوافدين إلى المسجد الأقصى من خارج مدينة القدس.
ثم مع بداية شهر رمضان، ركبت شرطة الاحتلال سياجاً شائكاً على سور المسجد الأقصى من الجهة الشمالية الشرقية، وأغلقت حاجز الأعمدة الإلكترونية في طريق المجاهدين وهو الطريق الأساس لدخول السيارات إلى البلدة القديمة، وأخيراً نصبت حواجز حديدية دائمة لقواتها على ثلاثة من أبواب الأقصى فغيّرت شكل هذه المداخل وحددت حيز الحركة فيها بما يتسع لشخص واحد أو شخصين في اللحظة الواحدة.
6 إجراءات من بينها 5 دائمة فرضتها قوات الاحتلال في محيط المسجد الأقصى على مدى 10 أيام قبيل بدء شهر رمضان ومع بدايته، تفصح بالممارسة عن نية صهيونية واضحة لاستدامة الحصار المفروض على المسجد الأقصى الذي بدأ يوم 17/ 9/ 2023م بالتزامن مع رأس السنة العبرية، ليُشدد أكثر خلال معركة «طوفان الأقصى» وعلى مدى شهور الحرب، وهو حصارٌ من الواضح أن الاحتلال قد ارتاح له كحالة دائمة تفرض على المسجد وتقيد وصول المصلين إليه ويعمل على تأبيده واستدامته ببنى تحتية، وبإجراءات أمنية أخرى رافقتها مثل منع من هم دون 55 عاماً من أهل الضفة الغربية من دخول القدس وحصر الدخول بأصحاب التصاريح الصادرة ببطاقة ممغنطة، واستدعاء أكثر من 5 آلاف من أبناء الداخل المحتل عام 1948م والقدس وتهديدهم بالإبعاد أو تسليمهم أوامر إبعاد فعلية عن المسجد الأقصى.
محاولة تأبيد هذا الحصار المفروض منذ 6 أشهر على المسجد الأقصى المبارك يمكن فهمها في 3 سياقات رئيسة:
الأول: السياق الإجمالي للإحلال الديني في المسجد الأقصى:
السعي إلى تغيير هويته من مقدس إسلامي خالص إلى مقدس يهودي خالص مروراً بمرحلة يكون فيها مقدساً مشتركاً بين المسلمين واليهود، وهذا السعي تحول إلى برنامج عملي يمارس على الأرض منذ عام 2003م ومر عليه اليوم 21 عاماً، وهو آخذ بالتصاعد وبالتحول إلى مشروع مركزي للكيان الصهيوني بمختلف مؤسساته السياسية والأمنية مع صعود مكانة الصهيونية الدينية سياسياً واجتماعياً، وهي التي بات أتباعها يشكلون 16% من الجماعة الاستيطانية اليهودية في فلسطين المحتلة.
هذا السياق هو الذي انطلقت منه معركة «طوفان الأقصى» من الأساس، وهو السياق المركزي الذي يجعل تقييد وصول المصلين المسلمين إلى المسجد هدفاً بحد ذاته توضع السياسات والخطط لفرضه، فهذا التقييد للوصول والحركة لا علاقة له بأي اعتبارات أمنية مزعومة، بل إن محاولة فرضه هو ما يحول المسجد الأقصى إلى عنوان اشتعالٍ متكرر.
الثاني: محاولة تفريغ معركة «طوفان الأقصى» من معناها:
حيث ينظر الاحتلال إلى «الأقصى» كعنوان للحرب النفسية على الشعب الفلسطيني، بالقول بأن يده ما تزال مُطلقةً في «الأقصى» رغم هجوم السابع من أكتوبر، وأنه بعد أن ألحق دماراً هائلاً بغزة وقتل من أهلها نحو 32 ألف شهيد وجرح منهم نحو 73 ألفاً، فإن عدوانه على «الأقصى» لم يتراجع بل ازداد.
وهو من حيث يحاول أن يبالغ في النكاية باندفاع نفسي ثأري وأيديولوجي ديني؛ فإنه بذلك يحافظ بل يعزز من مكانة المسجد الأقصى باعتباره مركز استنزاف القوة الصهيونية بشكلٍ مستمر، وهذا اتجاه تاريخي تكرس على مدى 28 عاماً مضت من عمر الصراع، بدءاً من «هبَّة النفق» عام 1996م، وحتى معركة «طوفان الأقصى»، إذ إن المسجد الأقصى كان عنواناً لانطلاق 10 مواجهات على أرض فلسطين بينها انتفاضة كبرى وحربان.
الثالث: تطور محاولات الحصار:
حيث إن حصار «الأقصى» شكل هاجساً لم يفارق مخيلة رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو طوال عقد مضى من الزمن، ويتشارك معه فيه حلفاؤه من تيار الصهيونية الدينية الذين فتح لهم المجال على مدى عقدين من الزمن لاختراق جهاز الشرطة الصهيوني حتى بات المنتمون للصهيونية الدينية يحتكرون مواقع مسؤولية أساسية في شرطة القدس.
في عام 2015م حاول وزير الخارجية الأمريكي تمرير مقترح الكاميرات داخل المسجد الأقصى لمراقبة كامل ساحاته ومصلياته المسقوفة في محاولة لحل أزمة نتنياهو في مواجهته «هبة السكاكين»، وفي عام 2017 حاول نتنياهو أن يفرض البوابات الإلكترونية وكاميرات التعرف على الوجوه على كل أبواب المسجد الأقصى المبارك بعد عملية الجبارين الثلاثة التي استهدفت جنود الاحتلال على باب حطة، لكن «هبة باب الأسباط» أفشلته.
وفي عام 2020م حاول أن يوظف إجراءات الاحتراز على وباء كورونا لاستدامة إغلاق المسجد لأطول وقت ممكن وتغيير الوقائع في الطرقات من حوله ومن بينها تركيب الأعمدة الحديدية المتحركة في طريق المجاهدين، لكن هبات القدس ومعركة «سيف القدس» عام 2021م أعادت إلى «الأقصى» الحضور الواسع للمرابطين والمصلين، بل عززت ثقافة شد الرحال إليه.
واليوم يعود نتنياهو إلى المحاولة من جديد لعله يستديم حصاراً امتد لـ6 أشهر بسيف الخوف والترهيب.
التحدي اليوم في «الأقصى» كبير لكسر إجراءات خنقه وتقييده والتحكم بحركة الحشود فيه ومن حوله، وهو تحدٍّ سيستمر ويتعاظم حتى نهاية رمضان وما بعده، ولن يترك الاحتلال محاولته المتجددة لفرض الحصار إلا بمواجهة شعبية جديدة تجدد إرادة التمسك بـ«الأقصى» وتكسر عنه الحصار من جديد.