عرضنا في الحلقة الماضية (https://mugtama.com/20/319363/) معاناة فتاة من والديها، بدءاً من خلافاتهما الزوجية، ومروراً بمأساة طلاقهما، وختاماً بتدمير ما تبقى منها بانتقام كل منهما من طليقه، بعد الطلاق، وكما وعدتكم، أيها القراء الكرام، بأنني سأتناول، بمشيئة الله، كيف أصل إلى قناعة شرعية بحتمية الطلاق، على أن أتناول كيفية الاتفاق على الطلاق بأقل الخسائر الممكنة في الحلقة القادمة.
على الزوج أن يبذل الجهد لإصلاح زوجه وأن يصبر عليه للحفاظ على عش الزوجية
أولاً: مفاهيم أساسية:
1- قناعة شرعية بحتمية الطلاق:
يجب التأكيد على أن الزوج عليه أن يبذل جل وكل الجهد لإصلاح زوجه، وأن يصبر عليه صبراً جميلاً للحفاظ على عش الزوجية والمحضن التربوي للأولاد، ولكن هناك ضوابط شرعية تؤدي إلى حتمية الطلاق، مثل: الصد عن أداء الشعائر، التعرض للوقوع في الكبائر، أذى نفسي أو بدني فوق الطاقة.
2- مفهوم العلاقة الزوجية:
الزواج ميثاق غليظ؛ حيث إن الشريعة الغراء؛ قرآناً وسُنة، أولت الأسرة المسلمة أهمية خاصة واعتبرته ميثاقاً غليظاً؛ (وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً) (النساء: 21)، بدءاً من اختيار الزوج حتى ما بعد الطلاق.
إن المسلم يتعبد لله تعالى في كل حياته بما فيها من زواج وطلاق؛ (قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الأنعام: 162)؛ لذا فإن هذا الميثاق الغليظ الذي عُقد بضوابط شرعية، يجب إلا يُحل أيضاً إلا بضوابطه الشرعية.
كلا الزوجين يتحمل قدراً ما من مسؤولية ما آلت إليه علاقته بزوجه من خلافات
3- الحكمة من مشروعية الطلاق:
إن الله الذي خلق يعلم بكنه خلقه، وشرع لهم بحكمته ما تستقيم به حياتهم لطفاً بهم؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، فكما أن شرع الزواج نعمة جليلة؛ (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، كذلك فإن أيضاً شرع الطلاق نعمة جليلة، ولكن يجب ألا يكون ذلك لهوى أو انتقام، ولكن لأسباب شرعية حيث تستحيل العِشْرة الزوجية بمعروف، وحفاظاً على النفس من الآلام العضوية أو المعنوية، أو مخافة الانزلاق في خطوات الشيطان.
4- المسؤولية عن الطلاق:
من واقع ما عُرض عليَّ من استشارات زوجية، سواء ما وفقني الله لحلها وإعادة العلاقة الزوجية إلى مسارها الطبيعي، أو ما شاء الله وانتهت بالطلاق، فإني أؤكد أن كلاً من الزوجين يتحمل قدراً ما من مسؤولية ما آلت إليه علاقته بزوجه من خلافات.
إن كثيراً من الأزواج يندم بعد معايشته للطلاق وآثاره، يلوم نفسه لأنه كان يمكنه أن يبذل ويصلح من نفسه وزوجه بما يخفف من معاناته؛ لأنها كانت أقل بكثير من الآثار السلبية التي جناها من الطلاق عليه وعلى أولاده.
قد يؤدي اختلاف طبيعة شخصية كل من الزوجين إلى عدم التكيف والانسجام بينهما
ثانياً: أسباب الطلاق:
من لم يخطط لبناء بيت تسوده المودة والرحمة؛ فقد خطط لبيت يسوده الشقاق؛ ومن ثم فقط خطط للطلاق.
1- الجهل بمقومات الحياة الزوجية:
أ- جهل شرعي بواجبات وحقوق الزوج على زوجه: من مقومات المودة والرحمة أن يعرف الزوج حق زوجه ويزيد بالفضل عليه، وأن يقبل بما تيسر ويقدر عليه زوجه، وأن يعفو عما تعسر ولم يقدر عليه.
ب- جهل بأسباب المودة والرحمة: إن المودة والرحمة ليست هبة ولا جينات ونمط شخصية، ولكنها توفيق من الله لزوجين أخلصا النية لله، وتعاهدا على بناء بيتهما بتنمية معارفهما ومهاراتهما وقدراتهما الزوجية، واتبعا نهجاً شاملاً ومتكاملاً للمودة والرحمة يناسبهما.
2- طبيعة ونمط الشخصية:
قد يؤدي الاختلاف البين لطبيعة ونمط شخصية كل من الزوجين إلى عدم القدرة على التكيف والتكامل والتناغم بينهما، ولكن قد يكون ذلك مقبولاً في فترة الخطبة أو العقد وما قبل البناء أو في الشهور الأولى من الزواج، ولكن بعد عدة سنوات من الزواج وعدد من الأولاد يأتي أحدهما طالباً الطلاق لأن طبيعة كل منهما ونمط شخصيته مختلفة عن الآخر، فهذا هراء! ألم يتبين لك ذلك خلال فترة الخطبة، وما تلاها من مراحل، قبل أن يهبكما الله الأولاد؟ وما ذنبهم أنك لم تكتشف هذا الكشف العظيم إلا بعدما مرت كل هذه السنوات وأتوا إلى الدنيا؟ ما ذنب أولادك إن كنت في غفلة أو تغافلت فلم تكتشف استحالة استمرار الحياة مع زوجك طوال هذه السنوات؟
قرار الطلاق لا يتعلق فقط بالزوجين ولكنه يمس أولادهما لما يترتب عليه من آثار سلبية
إن قرار الطلاق لا يتعلق فقط بالزوجين، ولكنه يمس بالدرجة الأولى أولادهما؛ لما يترتب عليه من آثار سلبية عليهم، نعم قد تسبب الخلافات الزوجية آثاراً سلبية على الأولاد، بحيث يكون الانفصال الأقل ضرراً لهم، ولكن لماذا لم يعالج ذلك بالحكمة في بداية مراحل الزواج مهتدين بالآية الكريمة: (فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) (البقرة: 229)، (وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُواْ حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا إِن يُرِيدَا إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ اللّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً) (النساء: 35).
ثالثاً: كيف أتخذ القرار (استمرار الحياة الزوجية/ الطلاق):
1- التهيئة الروحية والنفسية والعقلية والبدنية:
صلِّ وتصدق بما تيسر لك، وادعُ الله واجتهد بالدعاء.
– علاقتك بالله: فقد يكون خلافك مع زوجك نتيجة ذنب؛ مال حرام، علاقات غير شرعية، سوء خلق، أو تقصير في عبادة، ورد عن بعض السلف: «إني لأجد أثر معصيتي في خلق زوجتي وعقوق دابتي»؛ لذا راجع علاقتك بالله واجتهد وزد في تقواك لله قبل أن تقيم علاقتك بزوجك.
– حالتك النفسية: من الطبيعي أن تتأثر حالتنا النفسية بما نواجهه من مشكلات أو تحديات، وإن لم نسرع بحلها أو نعوّد أنفسنا على تركها جانباً إلى أن تُحل؛ ستؤثر علينا سلباً، كما أؤكد أنه يجب العزل الكامل لأي مشكلات يواجهها أي من الزوجين خارج نطاق الأسرة عن علاقاتهما، كما أن على الزوج أن يقدر أن زوجه لديه مشكلات ويعاونه في حلها إن أمكنه ذلك، ويكون سنداً ودعماً له، أيضاً علاقتك بزوجك يجب أن تكون مستقرة؛ بمعنى لا يمكن أن تقيّم زوجك بعد مشادة أو انفعال، لذا يجب قبل تقييم علاقتك بزوجك أن تكون حالتك النفسية طبيعية.
إذا أخلص الزوج النية لله في زواجه وصبر على نقصه فقد بشره الله بأجر بغير حساب
– حالتك العقلية والبدنية: إن طموحات الإنسان يجب أن تكون مناسبة لقدراته وضمن باقي مسؤولياته العبادية والعائلية، فالبعض يضع طموحات تفوق قدراته، وقد يحقق أحلامه بعد أن يكون قد قصر في حق الله وحق زوجه وأولاده، بل وحق نفسه.
إن الحياة المتوازنة تحافظ بفضل الله على قدرات الإنسان العقلية والنفسية والبدنية، وتجعله قادراً على تقدير الأمور واتخاذ القرارات الرشيدة؛ لذا يجب قبل أن تقييم علاقتك بزوجك تأكد بأن حالتك العقلية سليمة ولا تعاني من أي تشتت أو قصور.
2- تقييم علاقاتي بزوجي:
تحديد العناصر المؤثرة في علاقتك بزوجك: مدى الالتزام الديني، العاطفة، الحميمية، المالية، الأمان النفسي، القيام بمسؤولياته، التواصل الثقافي، نمط الشخصية، التوافق النفسي، تربية الأولاد… رتبها حسب الأهمية النسبية لك.
3- اعمل هذه المجموعات:
أ- مجموعة الإيجابيات الزوجية: رتب مزايا زوجك.
ب- مجموعة السلبيات الزوجية: رتب سلبيات زوجك.
جـ- مجموعة الإيجابيات التربوية: رتب مزايا زوجك التربوية.
د- مجموعة السلبيات التربوية: رتب سلبيات زوجك التربوية.
4- تناول خصائص كل سلبية:
– جهل، نمط وطبيعة شخصيته، عادة وثقافة، تعمد.
– طارئ، منذ الخطوبة.
– دائم، عارض، رد فعل لخطأ مني.
– الآثار السلبية: يمكن معالجتها، كارثية.
– ما الأعذار التي يمكن أن أبرر بها لهذه السلبيات؟
– هل أعلمته بهذه السلبيات بطريقة طيبة.
– هل يحاول زوجي تعديل سلبياته؟
قدر معدل رضاك عن مجموعة العلاقات ذات الأهمية القصوى بالنسبة لك، وكذلك العلاقات الأقل أهمية، مع ملاحظة قيمة الأهمية النسبية لكل علاقة داخل المجموعة، بمعنى أنه إذا كانت العلاقة العاطفية ذا أهمية أعلى من العلاقة المالية، وهي تحقق رضا تاماً في حين أن العلاقة المالية بها قصور، فإن الرضا عن العلاقة العاطفية يجبر القصور في العلاقة المالية، هذا ليس معناه ألا أبذل بالحكمة والموعظة الحسنة في سبيل إصلاح خلل العلاقة المالية.
أهمية تحليل عناصر تقييم الزوج: من واقع ما يرد إلينا من استشارات، قد يأتي الزوج وهو في قيمة السخط على زوجه وعزم على الطلاق، ولكن بسؤاله عن تقييم كل علاقة من علاقاته بزوجته، يتبين أن هناك العديد من العلاقات الناجحة وعلاقة واحدة سيئة! ولكن شيطانه ركز على قصوره وطمس نِعَم الله عليه الأخرى التي يتحلى بها زوجه، ويؤيد هذا المعنى ما ورد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يَفرَكْ مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقاً رضي منها آخر» (رواه مسلم).
الصبر على أذى الزوج المحتمل: يقول الله عز وجل: (قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ) (الزمر: 10)، إذا ما أخلص الزوج النية لله في زواجه وصبر صبراً جميلاً على نقصه، فقد بشره الله بأجر بغير حساب.
إن الصبر الجميل ليس به ضجر ولا سخط، ولكن فيه حسن توجيه ومساعدة الزوج على معالجة قصوره دون احتقار أو انتقاص من قدره، بل استثارة دوافعه نحو تزكية نفسه وتنمية قدراته.
قد يجد الزوج بعد هذا التقييم أن سلبيات زوجه تفوق إيجابياته؛ لذا أرى أن يقيم حالة الاستمرار مع حالة الطلاق كما يلي:
– إيجابيات الاستمرار عليَّ كزوج.
– سلبيات الاستمرار عليَّ كزوج.
– إيجابيات الاستمرار على الأولاد.
– سلبيات الاستمرار على الأولاد
– إيجابيات الطلاق عليَّ كزوج.
– سلبيات الطلاق عليَّ كزوج.
– إيجابيات الطلاق على الأولاد.
– سلبيات الطلاق على الأولاد.
وقد يجد أن رغم كل سلبيات زوجه، فإنه من الأفضل الاستمرار.
– فإن رجحت كفة الطلاق فأنصح بالانفصال دون طلاق لمدة من 3 – 6 أشهر، يغادر الزوج المنزل ويرتب مع زوجته كافة الأمور وكأنهما مطلقان، ثم يقيم كل منهما بعد معايشته الحياة كمطلق، فقد يستشعر قيمة زوجه ويعودان، ولكن بنية التعلم كيف يحيا وزوجه في مودة ورحمة، وإن قرر الطلاق فسنتناول في الحلقة القادمة كيفية ذلك.