حلت نسائم شهر القرآن والتقوى، ووسط ركام بيتهم في شمال غزة الذي سقط بقذيفة صهيونية، افترشت عائلة فلسطينية من أب وأم وأبناء حصيرة من القش، ونصبوا فوقها الحجارة المحملة بأطباق بسيطة من الزعتر والخبز والتمرات وبعض العدس، لتحل محل سفرة رمضان الأنيقة التي شهدت ولائم المنسف والقطائف باجتماع العائلة كباراً وصغاراً في حضور الجد، ولا يخفى أن أغلب تلك العائلة أصبح في عداد الشهداء الآن.
حمدت الأسرة ربها، لأنها قد نجت بأعجوبة من مذبحة مروّعة أصبحت اعتيادية في نهارات وليالي قطاع غزة، لا يدري رب الأسرة كيف هرعت بهم سيارات الإسعاف الشحيحة لأقرب مشفى ليفاجَؤُوا بمئات القابعين في انتظار خدمة طبية غير موجودة أصلاً، غالباً تم تضميد جروحهم بملابسهم وعادوا أدراجهم لا يعرفون إلى أن يتجهون، وتمنعهم إصابة الأب من مواصلة الطريق المضني لمخيمات الجنوب، فيما تحلق فوقهم الطائرات الصهيونية المسعورة وهي تلقي بكتل اللهب في كل مكان لقتل أي أثر لحياة في غزة.
هَمٌّ لا يطيقه بشر يجثم في صدر الأم والأب وسط بكاء أطفالهم؛ كيف نؤمّن لهم شبه حياة؟! كيف ننجو من استهداف القناصة والطائرات التي تنتظر أي تجمع ولو على كيس طحين لصنع خبز يسد الرمق؟! كيف يعثرون في الأسواق الخربة المهدمة على أي شيء يصلح لإقامة أودهم؟!
مجاعة كاملة في شهر الصوم، ومشاهد قاسية تطل من شاشات المحمول عمن تحولوا لهياكل عظمية، وتحذيرات دولية جوفاء، ومعونات شحيحة عبر السماء المطلة على البحر، تلقى للجياع أصحاب النفوس العزيزة بعد أن عجزت دول العالم عن اختراق المعابر بموادها الإغاثية.
ترمق الأم حزينة بيتهم المهدم، وأنفاس من فيه لا تزال تشحن المكان بالحزن والفقد، تكتم دموعها على ابنها البكري وكل من فقدتهم العائلة، وتتذكر تلك الأيام التي كانت تتسوق فيها مع أخت زوجها في أسواق غزة العتيقة وأهمها «قيسارية» المنتهي بالمسجد العمري، يبضّعون لرمضان بالياميش والتمر واللحوم والأرز والبهارات التي لا مثيل لها، وبما تيسر لديهم يشترون الزينة والملابس، لا مجال لتذكر هذه الرفاهية التي تعد طقساً في أغلب شوارع المسلمين، فمهمتها اليوم فقط البقاء وزوجها ومن بقي من أولادها على قيد الحياة.
مشهد القدس
اتصلت الأم بصعوبة بالغة بشقيقتها التي تقطن في القدس مع أسرتها، كانت تريد تهنئتها بقدوم رمضان، وتعرف أن أخباراً مقبضة سوف تحملها المكالمة التي لم تتعد بضع دقائق، فلا مكان قريباً لشحن الكهرباء، بالفعل جاءت الأخبار أن جنود الاحتلال «الإسرائيلي» قد فرضوا حصارًا على المسجد الأقصى، ولطالما شدت العائلة الرحال إليه في ليالي رمضان للاعتكاف ليلاً والتهجد والصلاة وقراءة القرآن، ولا يأبهون بتهديدات الصهاينة واستخفافهم، ويقابلونها بصنع «مقلوبة» كبيرة من الأرز واللحم والمكسرات والحمص تجمع نساء وأطفال ورجال العائلة.
لكن هذا العام لن نصنع «مقلوبة»، ولن نصلي هناك! تقول الأم لزوجها، بعد أن أغلقت الهاتف حزينة، وتخبره بأن أعداداً قليلة من المصلين هي المسموح بها، وأن غطرسة جنود الاحتلال لا حدود لها هذا العام، واستهداف المصلين وغلق الطرق المؤدية للمسجد.
مشهد رفح
بدلًا من الاستيقاظ على طبول المسحراتي، استيقظت أسرة الشقيقة الثالثة التي تقطن أحد مخيمات رفح، على أزيز الطائرات ونيران المدفعية، جلس الأب وتلا من القرآن ما تيسر له حتى وصل لقول الله تعالى: (الَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِلّهِ وَالرَّسُولِ مِن بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ وَاتَّقَواْ أَجْرٌ عَظِيمٌ {172} الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ) (آل عمران)، وبكى بكاء لم يسمع أحد من الأسرة مثله من قبل!
هوّن الابن على أبيه تلك المشاعر وتبادل معه حديثاً لطيفاً عن فانوس قدمه له متطوعون لإدخال البهجة على المخيمات البسيطة، وأشار له بزينة علقها مع أصحابه، فربت الأب على كتفه وبشره بزوال الغمة مع جيلهم الذي يحمل روحاً مقاومة لا تنكسر!
كان السحور بسيطاً للغاية لا يزيد على واحدة من المعلبات التي خزنتها الأم في أول أيام رمضان، فالسوق لا تبيع سوى المعلبات، ويندر وجود الخضر والفاكهة، ولا يستطيع أحد تحمل تكلفة اللحوم إن وجدت، لكن ماذا نقول؟ الحمد لله! زفرت في رضا.
كانت الجدة الطيبة تجلس على باب الخيمة، تتأمل تلك الأيام التي كانوا فيها يرتقون لأسطح المنازل لمشاهدة إضاءة المساجد إيذاناً بدخول موعد الإفطار، أو ذلك الموكب الذي يسير كل يوم بالإنشاد الديني، والكثير من العادات التي حافظ عليها أغلب سكان غزة وأهمها وأجملها تبادل الأطباق بين الجيران وقت الإفطار، فهو شهر التراحم، ويندر أن ترى فيه جائعاً! بل كانت الأسمطة تملأ الشوارع بموائد الرحمن تقرباً لله تعالى، أيام تتمنى لو يحضرها أحفادها بدلاً من العناء الذي يلاقونه للحصول على شربة من الطعام المطهو في التكية والتزاحم على طوابير المياه.
تقول الجدة: سمعت أن أسواقاً كانت تعمر البلدة القديمة ومنها القطانين والسورجية وغيرهما، وليست الزاوية هي السوق الوحيدة، وإن كانت الباقية على حالها قبل القصف الوحشي، وكانت تنتهي بالمسجد العمري الذي أنشأه السلطان قلاوون في القرن الرابع عشر.
لكن ليس الطعام فقط هو هَمّ الأسرة، تقول الأخت لشقيقتها التي لا تزال تعيش بين ركام البيت في الشمال، إذ هناك الخوف الأكبر من العملية التي تستعد لها «إسرائيل» لضرب رفح ضمن موجاتها الانتقامية منذ أذلها المقاومون قبل 6 أشهر، تصرخ الجدة: أما يكفي 30 ألفاً ويزيد يا أولاد الملعونين؟! ما ذنب الأبرياء؟! الله غالب.
كان صوت الإمام قريبًا ومدويًا رغم غياب أي مكبرات صوت، فضلاً عن أي مسجد بعد أن هدم الاحتلال أغلب مساجد غزة وأبنيتها، وكان المصلون مصطفين في خشوع خلفه، وقد قرأ الإمام عامداً آيات ذكرت المصلين بغزوة «بدر» حين هزمت الفئة المؤمنة بعتادها القليل، جيش الشرك بكل غطرسته، في رمضان، وتبعتها غزوات مباركات في الشهر نفسه الذي يحمل نسائم الانتصار على النفس والعدو.
اجتمع المصلون بعد الصلاة وتدارسوا صفحات من القرآن الكريم ورددوا بعض الأذكار حتى لاحت تباشير الصباح، صحيح أن النفس مكسورة والشوارع التي كانت الأضواء تتلألأ فيها، أصبحت مظلمة، لكن سكينة تغشاهم وتخبرهم بأن النصر قريب!
وفي الصباح اجتمع الشباب لبيع بعض الحلوى البسيطة للأطفال والأسر، واجتهد بعضهم في تحفيظ الأولاد القرآن، خلفهم صورة كبيرة للمسجد الأقصى المبارك عامراً بالمصلين.
فوق المساجد المدمرة صعد غزّيون وصلوا، وأشعلوا القناديل، وتجولوا على ما بقي من جدران.. واجتهد مؤذن الحي لرفع صوته: حي على الفلاح!