«نستقبل شهر رمضان بذروة سنام الإسلام؛ بالجهاد والرباط والقتال، في زمن عزّ فيه الرجال.
فيا عابد الحرمين لو أبصرتَنا لعلمت أنك بالعبادة تلعبُ
من كان يخضب خدَّه بدموعه فنحورنا بدمائنا تتخضب!»
بتلك الكلمات، استهل أبو عبيدة، الناطق باسم «كتائب القسام»، خطابه المسجل قبل ساعات قليلة من بداية شهر رمضان المبارك، مقدماً تهنئة استثنائية إلى «جمهور أمتنا الإسلامية»، كما جرت العادة في جميع خطاباته منذ بدأ معركة 7 أكتوبر 2023م «طوفان الأقصى»، وكأنه يريد أن يقول: إن «طوفان الأقصى» لا بد أن يسري في جسد الأمة فيصير طوفاناً للأمة.
مؤكداً أن رمضان هذا العام ليس كسابقه، وأنه جاء في ظروف استثنائية للغاية على أهل غزة خاصة، والأمة الإسلامية عامة، إلى أن وصلت الحال بأهل غزة في ظل الحصار بدأ صيام جبري قبل أن يبدأ شهر الصيام المفروض، فلم يعد يبقى لهم ماء ولا غذاء، ولسان حالهم «حتى أكلنا ورق الشجر»، فلقد أصبحوا بين مطرقة عدوان صهيوني غاشم، وسندان خذلان أنظمة خائنة وشعوب خانعة، باتت من الضعف والوهن كغثاء السيل.
فلماذا إذاً يستمر أبو عبيدة في توجيه خطابه منذ بداية المعركة حتى الآن إلى «جمهور أمتنا الإسلامية»؟! هذا لأن الرجل يعلم يقيناً أن معركة «طوفان الأقصى» هي معركة الأمة جمعاء، فهل تلبي الأمة النداء؟!
رمضان رمز وحدة الأمة
أتى رمضان هذا العام في ظروف استثنائية للغاية، فالنفوس إليه متشوقة، والقلوب إليه متلهفة، لتنعم بأجمل أيام العام، لكن كيف السبيل لذلك وقد تزامن مجيئه هذا العام مع جهاد أهلنا في غزة والأراضي الفلسطينية الحبيبة في مواجهة آلة القتل الصهيوأمريكية من خلال ملحمة «طوفان الأقصى»، فجمع أهلها بين إحياءين عظيمين؛ الأول: الجهاد في سبيل الله وقتال حثالة الأمم من الصهاينة، والآخر: لفريضة الصوم رغم القصف والحصار والتجويع، ولو كان لرمضان لسان ينطق، لشكانا به إلى الله على هذا الخذلان الذي ما بعده خذلان؛ «لكن لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله».
إن شهر رمضان هذا العام بمثابة محطة استثنائية وفارقة في مصير أمتنا الإسلامية التي يعتريها الضعف والوهن في ظل ما تعيشه من تحديات ونكبات، وفرقة وشتات، وتسلط للأعداء في بقاع الأرض، لا شيء يوحّدها مثل هذا الشهر الكريم، حيث تتجلى معاني وحدة المسلمين وتوحيد كلمتهم ورص صفوفهم، شهر الألفة والاجتماع والمحبة، رغم أن هذا أصل من أصول الدين، فإن هذا المعنى يظهر جلياً في هذا الشهر، شهر واحد، وصيام واحد، وإمساك واحد، وإفطار واحد، وصلاة قيام واحدة، وقبل ذلك قرآن واحد، وإله واحد، ونبي واحد، فلا يوجد هنا موضع قدم للفرقة والتشرذم! وقد حذر الله تعالى عن التنازع، فقال: (وَلَا تَنَٰزَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) (الأنفال: 46).
«طوفان الأقصى» وتوحيد الأمة
لقد أيقن أعداء هذه الأمة أنهم لن ينتصروا عليها بقوة السلاح إطلاقاً، وأن منظومتهم الحاكمة إلى زوال آجلاً أو عاجلاً، لذلك حرصوا على غرس الفرقة بين الأمة الإسلامية، والعمل على إعاقة تمكين هذه الأمة من الوحدة، وتقسيمها إلى دويلات متناثرة؛ لتضعف قوَّتها، وتتشتت طاقاتها، وتذهب ريحها، ومن ثَمَّ يسهل احتواؤها والسيطرة عليها؛ لأنهم يرون أن وحدة هذه الأمة بمثابة شهادة وفاة لهيمنتهم على هذا العالم، وها هي «طوفان الأقصى» خير شاهد ودليل، حيث تدافع غزة عن شرف الأمة وتخوض المعركة وحدها أمام أعداء الأمة.
إن معركة «طوفان الأقصى» ستمتد آثارها وتنتقل عبر الأجيال الحالية والمتعاقبة، مؤكدة أن قضية فلسطين تشكل صمام أمان أمام كل محاولات تقسيم وتجزئة وتفرقة هذه الأمة الواحدة، تحت مبررات وذرائع واهية، إلا أن فلسطين كانت على الدوام حامية لهذه الأمة من التفرقة، وإن رباط المجاهدين على الثغور في فلسطين، ومكانة فلسطين وموقعها في قلوب وعقيدة المسلمين كانت تعوق هذه المحاولات من النجاح عبر عقود، ولعل «طوفان الأقصى» جاءت لتؤكد هذه الحقيقة بالرغم من الضعف والهوان الذي يعتري المسلمين في بقاع الأرض.
وقد أكد د. محمد عمارة رحمه الله مكانة القدس عند المسلمين في كتابه «القدس بين اليهودية والإسلام»: «القدس.. إنها جزء من عقيدة أمة يبلغ تعدادها ملياراً وثلث مليار، وليست مجرد قضية وطنية لثمانية ملايين من الفلسطينيين، ولا مجرد مشكلة قومية لأقل من ثلاثمائة مليون عربي؛ إنها عاصمة الوطن الفلسطيني ومحور الصراع العربي الصهيوني، وفوق كل ذلك إنها عقيدة إسلامية وحرم مقدس».
وحدة الأمة مقصد رئيس بالتشريع الإسلامي
مما لا شك فيه أن وحدة الأمة مقصد رئيس في التشريع الإسلامي، وهو مفهوم قرآني موجود في سياق محكم صدع به القرآن في مختلف آياته: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ) (المؤمنون: 52)، ونطقت به السُّنة النبوية المطهرة.
إن مفهوم الأمة في الإسلام ليس مجرد اسم أو مصطلح أو لفظ، بل وعاء معرفي جامع، والأمة هي مركز ثقل البشرية بما تحمله من قيم عقدية وأخلاقية سماوية تجعلها ملتقى كل الأجناس والأعراق واللغات، وتجعلهم في بوتقة واحدة، يشد بعضهم بعضاً، فتربط بين أوصارهم وآمالهم وتزيد وتعمق التفاهم بينهم، كما توحد المشاعر والمدارك بينهم حتى يصبحوا وكأنهم جسد واحد.
عن النعمان بن بشير قال: قال رسول الله ﷺ: «مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم مثل الجسد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى»، أمة لا تفرقها حدود جغرافية أو عرقية أو غيرها، الكل بداخلها على اختلاف الجماعات البشرية صبغ بعقيدة الإسلام ومتمسك بقيم القرآن الشاملة والكاملة والممتدة إلى الدار الآخرة، وقد وضع الله سبحانه لهذه الأمة وظائف وخصائص مميزة تمهد لها الطريق لأن تقوم بدور الدعوة والاستخلاف، قال تعالى: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ) (آل عمران: 110).
إن رسائل وحدة الصف في رمضان في ظل معركة «طوفان الأقصى» لا تنتهي، ولا يراها إلا ذو قلب سليم ولا يهملها إلا لئيم، لقد حصدت الأمة مرارة التفرق والانقسام، وأصابها الضعف والوهَن والعجز، مستنزفة تحت مطارق الهيمنة الصهيونية، ولا يمكن أن تخرج من هوانها وتخلُّفها وعودتها لريادتها إلا بالرجوع إلى أصولها العقدية وجذورها التاريخية، وتعض عليها بالنواجذ، وتحقيق هذا الهدف من أوجب الواجبات على كل مسلم، وأن يبذل من أجل تحقيقه كل غال ونفيس.
يقول الشيخ أبو الأعلى المودودي رحمه الله، في كتابه «الجهاد في سبيل الله»: «ابذلوا مهجكم وأرواحكم وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل إقامة كلمة الحق، وأعدّوا لمنازع الشر والطغيان كل ما استطعتم من عدة وعتاد، تدفعونها بقوتكم حيثما كانت، وتجتثون شجرة الفساد من جذورها مهما رسخت وتغلغلت عروقها في الأرض، وهكذا تواصلون جهادكم؛ (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ ۚ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِير) (الأنفال: 39)».