كنا في حديث فلسطين يوماً، فأخذ بعضنا يصف ما يبدي الثوار من الجرأة، والذكاء، وسعة الحيلة، وحسن التدبير والحكمة، وروي في هذا المعرض قصصاً عجيبة، فهم بالقليل الموجود من السلاح القديم، يقاومون أمضى الأسلحة الحديثة، من طيارات، ودبابات، ومدافع جبلية، ومدافع رشاشة، وليس لهم سيارة واحدة يتنقلون بها، ولكنهم في كل مكان، ويصنعون القنابل بأيدهم، ويتخذون من أنابيب الماء فوهات مدافع، ويتخذون خطة الهجوم في كل حال، ويتولون الحكم بين الناس، ويقضون بالعدل، ويفضون المنازعات، ويطوون صفحات الخلافات والعداوات القديمة، ويدخلون المحاكم، وينحون قضاة الحكومة ويقضون هم فيما هناك، فينفذ أمرهم، ولا ينفذ أمر الحكومة، ويشيرون باتخاذ (العقال) بدلاً من الطربوش أو غيره من ألبسة الرأس، فإذا هو على رأس كل عربي من أبناء البلاد، ولو كان يصطاف في مصر أو سورية، وقد زالت هيبة الحكومة؛ وكفت «محاكم الصلح» عن العمل إلا في مدن أربع ليس إلا، وصارت الحكومة الحقيقة هي حكومة الثوار.
وقال أحد الذين كانوا في المجلس: «إن هذا العجيب! ولا شك أن بين الثوار كثيرين من المثقفين والمتعلمين؛ ولكن السواد الأعظم أقرب إلى السذاجة والفطرة، فكيف تيسر كل هذا لهم؟».
فلم يسعني إلا أن أقول: «إنهم يعملون بوحي الفطرة المستقيمة، وليس عجيباً أن يحسنوا التدبير، ويحكموا الخطط، ويضبطوا الأمر، ويظهروا ذكاء واقتداراً، وهل كان عمر بن الخطاب، وخالد بن الوليد، وعمر بن العاص، ومعاوية وإضرابهم من خريجي كمبرج، وسان سير، ومن حملة البكالوريوس والماجستير والدكتوراه؟ أريد أن أقول إننا لا نتعجب لما ظهر من مواهب العرب بعد ظهور الإسلام، وما كان من تغلبهم على دولتين كبيرتين في ذلك العهد، وفي آن معاً، فلا محل إذن للتعجب لما قدرت عليه ثورة العرب في فلسطين حيال دولة كبرى شاكية مستعدة».
والواقع أن فلسطين لم يعد في الإمكان قهرها وإرغامها على قبول ما لا تقبل، ولقد أستفزها إلى هذه الثورة المجيدة ظلم أريد بها ولا مثيل له في التاريخ، على الأقل فيما أعرف أنا.
ويجب أن نذكر أن العرب كانوا حلفاء لبريطانيا وزميلاتها في الحرب العظمى، وقد خرجوا على دولة الخلافة يومئذ، وهي دولتهم، وأكثرهم مسلمون، بل كان الثائرون على السلطة العثمانية، الملتحقون بجيش الثورة العربية، من المسلمين.
فعلوا ذلك لأنهم طلبوا الحرية، ونزعوا إلى الاستقلال، وقد عرفت بريطانيا هذا، ورضيت به، وشجعتهم عليه، ووعدتهم بتحقيقه؛ ولو كانوا يعلمون أنهم سيصيبهم ما أصابهم لما ثاروا، إذ لا خير ولا معنى لاستبدال نير بنير
وهذا الجيش العربي هو الذي أعان على فتح فلسطين وسورية، وسلخ البلاد العربية كلها من السلطة العثمانية، وكان جيش بريطانيا يدخل بلداً بعد بلد، فيجد الأمور ممهدة، ويقابل بالترحيب والحفاوة، لأنه حليف العرب، فماذا كان جزاء العرب؟
مزقت بلادهم كل ممزق، وأخلفت الوعود كلها، فلم ينجز الحلفاء للعرب منا واحداً، وما استقلت العراق إلا بثورة، ولا عقدت المحالفة السورية إلا بثورة بل ثورات، ومع ذلك لا تزال معلقة لا يعرف مآلها أحد، أما فلسطين فكان خطبها أدهى، فما أكتف بريطانيا بالانتداب، بل رمتها بشعب غريب فتحت له الثغور وقالت له أدخل، واستول على البلاد، وأقم لك فيها دولة، واتخذ منها وطناً.
وما كانت البلاد بغير أهل حتى تفعل بريطانيا ذلك، ولا هي بالأرض الواسعة الرقعة، العظيمة الخصب، حتى تتحمل هذا السيل من المهاجرين إليها، وإن اليهود لمضطهدون في أنحاء شتى من الأرض، ولكن ما ذنب فلسطين؟ ومن تهكم الحوادث وسخر الأقدار أن ترمي بالهجرة اليهودية والوطن القومي الصهيوني البلاد العربية التي نعم اليهود في ظل دولتها بالعدل والعطف والحرية كما لم ينعموا في ظل دولة أخرى، فقد كنوا في الأمم الأخرى مضطهدين محقرين، وكان البريطانيون أنفسهم في القرون الوسطى يعدونهم أنجاساً منبوذين، ونحسب أن اليهود يقرءون روايات وولتر سكوت!
فإذا كان الشعب الفلسطيني قد ثار، فله العذر؛ وإذا كان على قلة عدده وانقطاع المدد عنه، قد راع الدنيا بثورته الجليلة فلا عجب، فأنه يدافع عن حقله وبيته بأدق المعاني العرفية للفظ الدفاع عن الحوزة، فإن بيته ينسف بالديناميت فيتشرد هو وأبناؤه ونسائه في الجبال الجرداء، والسهول الخصبة التي يملكها تقتطع وتوهب للدولة الصهيونية، فماذا يصنع هذا
الشعب غير أن يثور؟ وماذا يسعه، وقد ثار، إلا أن يستبسل ويستميت؟ إنه موت بموت، فالموت مع الشرف وبعد الدفاع الكريم إلى الرمق الأخير، أولى من الموت جوعاً في جبال عارية لا ماء فيها ولا شجر، هي التي يراد طرد العرب إليها لإنشاء الدولة الصهيونية
يضاف إلى هذا أن الغدر الفظيع الذي تنطوي عليه هذه السياسة، بشعب كان من أقوى الأعوان لبريطانيا في الحرب العظمى، وأخلصهم لها، يضاعف عزم الثوار، ويجعلهم أقوى وأجرأ.
ومن الجلي أن سياسة الوطن القومي على حساب العرب قد أخفقت، وأن إنشاء دولة صهيونية في فلسطين قد أرتد إلى عالم الخيال الذي لا محل له في عالم الحقائق، ومن الواضح الآن أن على بريطانيا إذا أرادت إمضاء العزم على تقسيم البلاد وإقامة دولة للصهيونية فيها، أن تجيش الجيوش وتسير الأساطيل لتفتح فلسطين عنوة، فما يكفي كل مالها هناك الآن من قوة وعتاد.
وأوضح من ذلك كله وأجلى حقيقتان أخريان، فأما الأولى فتلك أن ثورة فلسطين – وهي أعدل ثورة قامت في الدنيا وأروع ما شهد العالم من مثيلاتها – قد جمعت قلوب العرب في الأقطار جميعاً وألفت بينها، فهم الآن أمة واحدة وإن كانت دولهم كثرا، وعلى بريطانيا أن تختار صداقة هذه الأمة أو عداوتها، وعليها أن تقيس قدرة العرب جميعاً إلى قدرة فلسطين وحدها ونعتقد أنها تؤثر صداقة العرب ولا تجازف بعداوتهم ولا سيما أنه ليس لها باعث من مصالحها الخاصة الحيوية على اختيار خطة العداء.
والعرب يقولون الآن لبريطانيا كما قال ابن الرومي:
أمامك فانظر أي نهجيك تنهج طريقان شتى، مستقيم، وأعوج
والمستقيم أولى، وهو الذي سيكون إذا كان علمنا بالإنجليز ليس كله خطأ.
والحقيقة الأخرى أن بريطانيا لا تخدم اليهود بهذه السياسة، وإنما تثير عليهم نقمة العالم العربي والعالم والإسلامي، وهم أمة لا ينقصها أن يزيد كارهوها، ونحسب أن اليهود قد بدؤوا يدركون هذا، ويفطنون إلى أن السياسة الصهيونية تورثهم عداء هم في أشد الغنى عنه.
__________________
مجلة «الرسالة»، العدد (275).