في خضم حديثنا عن رجال القرآن، مر بنا شخصيتان وهما عثمان بن عفان رضي الله عنه، ونافع بن أبي نعيم كتلميذ له، واليوم مع شخصية محورية من رجال القرآن كواحد من السبعة الأوائل في القراءات السبع، وهو الصحابي الجليل عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه.
أولاً: نسبه وإسلامه:
هو عليّ بن أبي طالب (عبد مناف) بن عبدالمطلب، ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويلتقي معه في جده الأول عبدالمطلب بن هاشم، ووالده أبو طالب شقيق عبدالله والد النبي صلى الله عليه وسلم، وكان اسمه يوم مولده «أسد» سمته بذلك أمه، وكنيته أبو الحسن نسبة إلى ابنه الأكبر الحسن، وهو من ولد فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويكنى أيضاً بأبي تراب، كنية كناه بها النبي عليه الصلاة والسلام وكان يفرح إذا نودي بها(1).
وكانت قد أصابت قريشاً أزمة شديدة فأثرت على عوام الناس فقراً وحاجة، ومن بينهم أبو طالب، عم النبي عليه الصلاة والسلام، فالتقى النبي صلى الله عليه وسلم بعمه العباس وأشار عليه أن يخففا عن عمه أبي طالب، فيأخذ كل منهما واحداً من عياله ويضمه إليه، فوافق العباس وضم إليه جعفراً، وضم النبي عليه الصلاة والسلام علياً.
وكان من حسن طالعه أن يكون ربيباً لنبي الإسلام، فرافق النبي صلى الله عليه وسلم في حله وترحاله، وتعلم منه وتخلق بأخلاقه في سن مبكرة، ويتضح أثر تلك التربية في قصة إسلام علي رضي الله عنه ونبوغ فكره وعقله والحرية الفكرية التي تربى عليها في بيت النبوة.
فيروي ابن إسحاق أن علياً بن أبي طالب جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم بعد إسلام خديجة، فوجدهما يصليان، فقال عليّ: ما هذا يا محمد؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دين الله الذي اصطفاه لنفسه، وبعث به رسله، فأدعوك إلى الله وحده وإلى عبادته، وتكفر باللات والعزى»، فقال له عليّ (الصبي): هذا أمر لم أسمع به من قبل اليوم، فلست بقاض أمراً حتى أحدث أبا طالب، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفشي عليه سره، قبل أن يستعلن أمره، فقال له: «يا عليّ إذا لم تسلم فاكتم».
فمكث عليّ تلك الليلة، ثم إن الله أوقع في قلب عليّ الإسلام، فأصبح غادياً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءه فقال: ما عرضت عليَّ يا محمد؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «تشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وتكفر باللات والعزى، وتبرأ من الأنداد»، ففعل عليّ وأسلم، ومكث عليّ يأتيه على خوف من أبي طالب، وكتم إسلامه ولم يظهر به(2).
ثانياً: دوره في الهجرة وفداؤه للنبي بنفسه:
اجتمعت قريش في دار الندوة وأجمعوا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم، فأعلم الله عز وجل نبيه بالأمر، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يُبقي في فراشه أحداً يطمئن قريشاً أن محمداً في فراشه لم يغادره بينما هو يعد لأول خطوات الهجرة المباركة، وكان لا بد أن يكون هذا الشخص فدائياً ليقبل أن يضحي بنفسه وينام مكان النبي صلى الله عليه وسلم وربما يتعرض للقتل وانتقام قريش حين تكتشف الخدعة وتكتشف أن محمداً قد غادر بالفعل من بين أظهرهم وهم يحاصرون بيته.
فأمر النبي صلى الله عليه وسلم علياً أن ينام في فراشه تلك الليلة، وبالطبع لن يقبل أن يقوم بتلك المهمة إلا رجل غير عادي، رجل شجاع ونفس تواقة للشهادة، فقبل عليّ.
وقد جاء في رواية أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «نم في فراشي وتسج ببردي هذا الخضري، فنم فيه، فإنه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم»، فرقد عليّ على فراش النبي صلى الله عليه وسلم يواري عنه، وباتت قريش تختلف، وتأتمر، أيهم يهجم على صاحب الفراش فيوثقه، حتى أصبحوا فإذا هم بعليّ، فسألوه فقال: لا علم لي، فعلموا أنه فر، وعن ابن عباس: إن علياً قد شرى نفسه تلك الليلة حين لبس ثوب النبي صلى الله عليه وسلم ثم نام في مكانه، وفى عليّ وإخوانه من الصحابة المجاهدين الذين يبتغون رضوان الله والدار الآخرة نزل قوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة: 207)(3).
ثالثاً: علمه وعلاقته مع القرآن(4):
كان أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه من كبار علماء الصحابة، حيث يقول في جمعه للقرآن الكريم: «آليت بيمين ألا أرتدي بردائي إلا إلى الصلاة حتى أجمع القرآن»، وقال: «ما دخل نوم عيني، ولا غمض رأسي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى علمت ذلك اليوم ما نزل به جبريل عليه السلام من حلال أو سُنة أو كتاب أو أمر أو نهي وفيمن نزل».
وكان رضي الله عنه يتلقى النص من رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، ولكن عندما يبلغه الحديث من غيره فإنه شديد التحري في قبوله خشية أن ينسب لرسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً لم يقله، وعن ابن عباس قال: «إذا أتانا الثبت عن عليّ لم نعدل به»(5)، وفي مسؤولية أهل العلم يقول عليّ: «ما أخذ الله العهد على أهل الجهل أن يتعلموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلموا»(6).
وقد عاش رضي الله عنه حياته مع القرآن؛ تلاوة وحفظاً وفهماً وعملاً، وقد كان على مبلغ كبير من العلم بالقرآن وعلومه، وكان منهجه في استنباط الأحكام الشرعية من القرآن الكريم يقوم على الأسس الآتية(7):
1- الالتزام بظاهر القرآن الكريم حين لا يرى قرينة تقتضي صرفه عن ظاهره، ومن ذلك أنه كان يتوضأ لكل صلاة بناءً على قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ) (المائدة: 6).
2- حمل المطلق على المقيد: فقد حمل عدم قطع اليدين للسارق المتكرر بناء على آية الحرابة في قوله تعالى: (مِّنْ خِلافٍ) (المائدة: 33)، وكان يقول: «إني أستحيي من الله ألا أدع له يداً يأكل بها ويستنجي».
3- فهم النص بنص آخر: في مثل تفسير قوله تعالى: (حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى) (البقرة: 238)، فقد قال: إن الصلاة الوسطى هي صلاة العصر بناء على قوله صلى الله عليه وسلم يوم «الأحزاب»: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً».
4- النظر في لغة العرب: ومن ذلك فهمه رضي الله عنه لقوله تعالى: (أَوْ لاَمَسْتُمُ النِّسَاء) (المائدة: 6)، قال: اللمس هو الجماع، ولكن الله كنى عنه، وحمل المس في قوله تعالى: (وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً) (البقرة: 237) على الخلوة، فأوجب الصداق بالخلوة.
5- تخصيص العام: ومن ذلك أنه حكم في عدة الحامل المتوفى عنها زوجها بأن تعتد أبعد الأجلين، أي أنه خص عموم الآيتين: (وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً) (البقرة: 234)، وقوله تعالى: (وَأُوْلَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ) (الطلاق: 4)، فكل من الآيتين عام في وجه وخاص في وجه آخر، تخصص إحداهما الأخرى عند عليّ، ولعله عمل بالاحتياط جمعاً بين الآيتين.
وكان يتفاعل في قراءته للقرآن، فكان يقول عندما يقرأ قوله تعالى: (أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ) (الواقعة: 59) بل أنت يا رب ثلاثاً.
رابعاً: أقوال فيه:
عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لعليّ: «أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى» (متفق عليه)، وقال سهل بن سعد: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله، يفتح الله على يديه»، فبات الناس يدوكون ليلتهم أيهم يعطاها، فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم يرجو أن يعطاها، فقال: «أين عليّ بن أبي طالب؟»، فقالوا: يشتكي عينيه يا رسول الله، قال: «فأرسلوا إليه»، فأتي به فلما جاء بصق في عينه فدعا له فبرئ كأن لم يكن به وجع،، فأعْطَاهُ الرَّايَةَ، فَقالَ عَلِيٌّ: يا رَسولَ اللَّهِ، أُقَاتِلُهُمْ حتَّى يَكونُوا مِثْلَنَا؟ فَقالَ: «انْفُذْ علَى رِسْلِكَ حتَّى تَنْزِلَ بسَاحَتِهِمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلى الإسْلَامِ، وأَخْبِرْهُمْ بما يَجِبُ عليهم مِن حَقِّ اللَّهِ فِيهِ؛ فَوَاللَّهِ لَأَنْ يَهْدِيَ اللَّهُ بكَ رَجُلًا واحِدًا، خَيْرٌ لكَ مِن أنْ يَكونَ لكَ حُمْرُ النَّعَمِ» (أخرجه البخاري ومسلم).
خامساً: من فتاواه:
كانت لعليّ رضي الله عنه فتاوى يرجع إليه المسلمون فيها، وذلك لكثرة مصاحبته للنبي صلى الله عليه وسلم، فقد سألت عائشة رضي الله عنها عن المسح فقالت: ائت علياً فهو أعلم مني، قال: فأتيت علياً فسألته عن المسح على الخفين، قال: فقال: كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يأمرنا أن نمسح على الخفين يوماً وليلة، وللمسافر ثلاثاً(8).
هذا وما زالت حياة أمير المؤمنين عليّ رضي الله عنه غزيرة في العلم والجهاد، ومن يرد الاستزادة ننصحه بالرجوع لكتاب «عليّ بن أبي طالب» للدكتور عليّ محمد الصلابي ففيه الكثير مما يجب أن يعرف عن الإمام الثاني من أئمة القرآن.
____________________
(1) عليّ بن أبي طالب للدكتور علي محمد الصلابي، ص 20.
(2) المرجع السابق، ص 35.
(3) المرجع السابق، ص 42.
(4) المرجع السابق، ص 206، بتصرف.
(5) الاستيعاب، ص 1103.
(6) فرائد الكلام، ص 361.
(7) إذاعة القرآن الكريم بنابلس.
(8) إسناده صحيح على شرح مسلم.