ارتبط شهر رمضان في تاريخ الأمة الإسلامية ووجدانها بالجهاد والانتصار، وتقديم الصورة الرائعة والنموذج الأمثل للشخصية الإسلامية المتميزة، ويدل على ذلك ما يرصده التاريخ من غزوات ومعارك فاصلة، استطاع المسلمون من خلالها تحقيق أعظم الانتصارات،
ففي رمضان انتصر المسلمون في غزوة «بدر الكبرى» (2هـ)، وفي «فتح مكة» (8هـ)، وفي معركة «البويب» (13هـ)، وفي معركة «القادسية» (15هـ)، وفي فتح بلاد الأندلس (92هـ)، وفي معركة «الزلاقة» (479هـ)، ومعركة «عين جالوت» (685 هـ)، وموقعة «حطين» (583هـ)، والعاشر من رمضان 1393هـ، التي تحطمت فيها قوة اليهود في سيناء.
ففي هذا التاريخ العظيم ما يؤكد أن شيئاً مهماً يدفع إلى تحقيق هذه الانتصارات في رمضان، رغم الجوع والعطش، فما هو هذا الشيء؟
إن الناظر في آيات الصيام في القرآن الكريم يجد أنها بدأت بقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) (البقرة: 183)، وانتهت بقوله تعالى: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) (البقرة: 187)، ثم جاءت الآيات التي بعدها لتتناول الحديث عن الأمر بالقتال والجهاد في سبيل الله، حيث قال تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ {190} وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ {191} فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ {192} وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَواْ فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ) (البقرة).
وفي هذا دليل على أن هناك علاقة بين الصيام والجهاد في سبيل الله، وتتضح هذه العلاقة في كون الصيام وسيلة فاعلة في الإعداد للجهاد، وهو إعداد النفس المؤمنة، وبناء الإرادة القوية التي تسهم في تحقيق الانتصارات المتوالية.
ففي شهر رمضان تستطيع الأمة الإسلامية أن تبني نفسها من جديد، وأن تنتصر على حالها الكسيد، حتى تصل إلى مستقبل مجيد.
فكيف نصنع هذا الانتصار العتيد؟
أولاً: الانتصار على الشهوات المعنوية:
التي تتمثل في الرياء وحب الظهور والشهرة والتمايز على الناس، ويأتي الصيام لمعالجة هذه الآفات، فيدعو إلى إخلاص النية وضبط النفس الإنسانية، فلا يستطيع أحد أن يعلم صحة صيامنا وقبوله إلا الله، وهنا تتجه القلوب إلى الله تعالى مخلصة في طلب القبول، بغية الأجر والثواب المأمول، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «قالَ اللَّهُ تعالى: كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له، إلَّا الصِّيَامَ؛ فإنَّه لي، وأَنَا أجْزِي به».
كما يسهم الصيام في ضبط النفس الإنسانية، فتنتصر على الانفعالات والعواطف السلبية، من خلال التحكم في الغضب والتهور، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «الصِّيَامُ جُنَّةٌ، فإذَا كانَ يَوْمُ صَوْمِ أحَدِكُمْ فلا يَرْفُثْ ولَا يَصْخَبْ، فإنْ سَابَّهُ أحَدٌ أوْ قَاتَلَهُ، فَلْيَقُلْ: إنِّي امْرُؤٌ صَائِمٌ».
ثانياً: الانتصار على الشهوات المادية:
فالصائم ينتصر على شهوتي البطن والفرج من طلوع الفجر إلى غروب الشمس، ورغم أنه يستطيع أن يأكل ويشرب؛ لكنه يمتنع عن ذلك حتى يتم صومه، حيث قال الله تعالى: (وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ) (البقرة: 187)، وفي هذا تربية على الصبر والتحمل والتحكم في الشهوات المادية.
ثالثاً: الانتصار على آفات اللسان:
وهي تظهر في الغيبة والنميمة وقول الزور، ويسهم الصيام في هذا الانتصار من خلال التأكيد على أن الصائم يجب أن يتخلى عن هذه الآفات، وإلا فإن صيامه يكون ناقصاً، ففي صحيح البخاري عن أبي هريرة قال، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ»، وقال صلى الله عليه وسلم: «ليس الصيامُ من الأكلِ والشربِ، إنما الصيامُ من اللَّغوِ والرفَثِ، فإن سابَّك أحدٌ أو جهِل عليك فقل: إني صائمٌ».
ففي رمضان يستطيع المسلم أن يتدرب على ترك هذه الآفات من خلال التطلع إلى تحصين صيامه منها وحرصه على تحصيل الأجر والثواب، حتى يصبح ذلك عادة له.
رابعاً: الانتصار على آفات النفس الإنسانية:
مثل البخل والشح، ففي رمضان يتسابق الناس إلى البذل والعطاء، اقتداءً برسول الله صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري عن عبدالله بن عباس قال: «كانَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أجْوَدَ النَّاسِ، وكانَ أجوَدُ ما يَكونُ في رَمَضَانَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ، وكانَ جِبْرِيلُ يَلْقَاهُ في كُلِّ لَيْلَةٍ مِن رَمَضَانَ، فيُدَارِسُهُ القُرْآنَ، فَلَرَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ حِينَ يَلْقَاهُ جِبْرِيلُ أجْوَدُ بالخَيْرِ مِنَ الرِّيحِ المُرْسَلَةِ».
كما يحرص المسلم في رمضان على العطاء رغبة في تحصيل الأجر والثواب، ويتجلى ذلك في التسابق إلى إفطار الصائمين، سعياً إلى الفوز بالثواب المترتب على ذلك، ففي سنن الترمذي عن زيد بن خالد الجهني، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا»، وفي هذا ما يربي المسلم على العطاء والتضحية، ويعالج ما في نفسه من البخل والشح.
خامساً: الانتصار على الكسل والنوم:
ففي رمضان يقوم المسلم من نومه للسحور، من أجل أن يستعين به على الصيام، وقد رغّب الإسلام في القيام للسحور، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنسِ بنِ مالكٍ قال: قال النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «تسَحَّرُوا؛ فإنَّ في السَّحورِ بَرَكةً»، ومن جميل ما في السحور أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حثنا على تأخيره، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أنسٍ أنَّ زَيدَ بنَ ثابتٍ حدَّثَه أنَّهم تسَحَّروا مع النبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ قاموا إلى الصَّلاةِ، قلتُ -أي أنَس-: كم بينهما؟ قال: قَدْرُ خَمسينَ آيةً، ولعل السبب في الدعوة إلى تأخير السحور هو أن يدرك المسلم صلاة الفجر، فينتصر على التكاسل عن الطاعة والعبادة.
كما ينتصر على الكسل من خلال الحرص على صلاة التراويح والقيام، رغبة في تحصيل أجرها وثوابها، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ»، وكذلك الاجتهاد في العشر الأواخر من رمضان، رغبة في إدراك ليلة القدر، ففي صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: «كانَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ إذَا دَخَلَ العَشْرُ شَدَّ مِئْزَرَهُ، وأَحْيَا لَيْلَهُ، وأَيْقَظَ أهْلَهُ»، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال، قالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
وفي هذا ما يدعو إلى الاجتهاد والقوة، من أجل الوصول إلى الهدف والغاية.
والمتأمل في هذه المظاهر يجد أنها معبرة عن الانتصار على الشهوات المتنوعة، ودافعة إلى غرس القيم الفاضلة، التي تسهم في حسن الإعداد والتكوين للإنسان المسلم.
هذا الإعداد العظيم هو الذي جعل الأمة الإسلامية تنتصر في شهر رمضان على أصناف متعددة من الجيوش، فقد انتصر المسلمون على المشركين والصليبيين والفارسيين والتتار واليهود وغيرهم من المحاربين، في دلالة صريحة على أن المسلم الذي يمتلك تربية إيمانية وقوة عسكرية لا يقف أمامه أي نوع من البشر.
إننا حين نتذكر تاريخ أمتنا وانتصاراتها؛ نبعث في نفوسنا ومجتمعنا روح العزة والكرامة، ونسعى إلى إعادة هذه الأمجاد، حتى يقر الله أعيننا بتحرير بلاد المسلمين ونصرة المجاهدين.
فعلينا أن ننتصر على أنفسنا وشهواتنا، وأن نغرس الأمل في نفوسنا، وأن نستمد العون من ربنا، وأن نتعاون مع بعضنا، حتى ينصرنا الله على عدونا، قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ) (محمد: 7)، وقال عز وجل: (وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: 40).