بعد أن أدى صلاة الفجر في جماعة في مسجد المجمع الإسلامي يوم الإثنين 1 صفر 1925هـ/ 22/ 3/ 2004م جلس، رحمه الله، مع شباب المسجد في حلقة القرآن، ثم خرج من المسجد متوجهاً إلى بيته، وفي منتصف الطريق قامت الطائرات الصهيونية بإشراف من شارون نفسه باغتيال الشيخ أحمد ياسين، مؤسس حركة المقاومة الإسلامية (حماس)، وذلك بإطلاق صواريخ أدت إلى استشهاده وخمسة من المصلين واثنين من مرافقيه.
هذا الاغتيال الجبان يعبر عن طبيعة اليهود الخبيثة التي اعتادت على سفك الدماء وقتل الأبرياء، كيف لا وهم قتلة الأنبياء والمرسلين والصالحين فقد قتلوا يحيى وزكريا قال تعالى: (ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِّنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِّنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ۚ ذَٰلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُوا يَعْتَدُونَ) (آل عمران: 112)، جاء تفسير ابن كثير بهذه الآية فيما رواه عبدالله بن مسعود قال: «كانت بنو إسرائيل في اليوم تقتل ثلاثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار»!
لقد تناثرت أشلاؤك يا شيخنا في سماء فلسطين، وتحطم كرسيك الذي كنت تجلس عليه واحترقت لفحتك التي كنت تضعها على صدرك الشريف إنها جريمة العصر إنها جريمة القرن الحادي والعشرين.
إن يوم استشهادك يا شيخنا هو ميلاد جديد للمقاومة وللقضية، يوم استشهادك بعث تجديد سيسري في روح الأمة يوم استشهادك استنهاض للهمم من جديد، إنه يوم الانتصار، يوم الكرامة، يوم العزة والفخار، فقد خرجت غزة والضفة بمئات الألوف رجالاً ونساء وشباباً وشيوخاً تودعك وتعاهدك على المضي في طريق الجهاد، وعلى الموت في سبيل الله وخرجت الجماهير الغاضبة تستنكر الجريمة النكراء في مصر والأردن ولبنان وسورية واليمن والسودان وغيرها من البلاد العربية والأوروبية، خرجت كلها لتقول: «نحن معك يا رمز المقاومة سنسير على دربك بإذن الله تعالى».
قد رحلت عنا يا شيخنا بعد أن زرعت الأمل فينا بأن النصر قادم بإذن الله، وأن المقاومة مستمرة حتى دحر الاحتلال.
رحلت عنا وتلاميذك ومحبوك في كل بيت وشارع في المدارس والجامعات والمساجد يحملون الراية من بعدك، فنم قرير العين هانئاً هادئ البال، فأنت الذي قلت: هدفي هو رضاء الله عز وجل، وها أنت تلقى الله وهو راض عنك إن شاء الله تعالى؛ (وَلَا تَقُولُوا لِمَن يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ ۚ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَٰكِن لَّا تَشْعُرُونَ) (البقرة: 154).
يقول الشهيد سيد قطب معقباً عن هذه الآية: إن هنالك سيخرون شهداء في حق حركة شهداء في سبيل الله، أعزاء قتلى كراما أزكياء، وهؤلاء الذين يقتلون في سبيل الله فاعليتهم في نصرة الحق الذين قتلوا من أجله فاعليه مؤثرة والفكرة التي من أجلها ترتوي بدمائهم وتمتد وتأثر الباقين ورائهم باستشهادهم بقوى ويمتد لهم ما يزالون عنصراً فعالاً واقعياً مؤثراً في تكييف الحياة وتوجيهما.
حقاً يا شيخنا القعيد، فقد كنت والله كالأسد الهصور، فبمجرد أن تتحدث أو تصرح بصوتك الخافت الرصين، تنزل الخوف والرعب في قلوبهم رغم أنك على كرسيك قعيد، أتذكرك يا قائدنا حين صرحت قبل استشهادك فقلت: إن شارون سيخرج من غزة منهزماً بسبب ضربات المجاهدين، وأن انسحابه من غزة هو ثمرة الجهاد والمقاومة.
بهذه الكلمات بكت شارون وحكومته وجعلته في هوس حتى بدأ يتخبط كالمجنون يرسل بدباباته وصواريخه تجتاح كل يوم مدن وقرى فلسطين ويوقع الخسائر في الأرواح والمعدات، في الرد السريع بالعملية المشتركة بين «كتائب القسام» و«كتائب شهداء الأقصى» في ميناء أسدود، التي وقعت كالصاعقة على دولة الكيان المسخ وجعلتهم في إرباك الخط الحقيقي لم يسبق له مثيل في تاريخ دولتهم منذ نشأتها، كانوا يخافونك يا شيخا درة الإسلام التي وقرت في قلبك، كانوا يخافون منك ومن تلاميذك المجاهدين الصادقين لربما يخافون من الله كما قال الله تعالى: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ) الحشر: 13).
وظن شارون واهماً أنه باغتيالك سيقضي على «حماس»، سيقضي على المقاومة والجهاد ويوهن من عزيمتها، وهو لا يدري أنه حفر قبره بيده، وسيعلم ولو بعد حين أن اغتيال الشيخ بداية حقيقية لزوال دولة الكيان المسخ.
وعلمتنا يا شيخنا معنى الثبات على الموقف والمبدأ في أحلك الظروف وأصعبها، قد جاء إليك الوفد المصري يحمل رسالة من اليهود والأمريكيين مفادها: إن قبلت «حماس» وقف إطلاق النار فإن «إسرائيل» ستوقف اغتيال قيادات «حماس»، فقلت لهم على الفور: «هذا مرفوض مرفوض، نحن لا نقاتل من أجل حماية رؤوسنا، ولو كنا نريد ذلك لجلسنا في بيوتنا مع نسائنا وأطفالنا وتركنا الجهاد، نحن نقاتل من أجل عدالة قضيتنا، ولا نخاف الموت، إن قيادات «حماس» ليست بأفضل من أطفال الذين يذبحون أمام سمع وبصر العالم كله».
علمتنا يا شيخنا كيف نتخذ القرار بالشورى، فأنت رغم جلالك وقدرك عند أبناء الحركة الإسلامية لكنك تأبى إلا أن تكون فرداً منهم تخضع للنظام الداخلي للإخوان المسلمين ولمؤسسات الحركة في كل شيء، فكنت لا تأخذ رأياً إلا بالشورى، فحين اتصل بك الوزير عمر سليمان، رئيس المخابرات المصرية، حين احتدت الأمور وزادت وتيرة الانتفاضة ضد اليهود قال لك: يا سيدي الشيخ، نرجو أن تتدخل لحل المشكلة بإعلان الهدنة، فقلت له: «أنا لا أستطيع أن أتخذ قراراً وحدي، بل سأعرض الأمر على مؤسسات الحركة، وهي صاحبة القرار»!
شيخنا، عشت معلماً للأجيال حين كان بيتك مأوى للشباب وأنت معسكر الشاطئ الشمالي في غرفة القرميد الصغيرة التي لا تتجاوز 3 + 3م، هذه الغرفة التي كانت خلية لنزاعات على مدار الساعة، ما دخل عنك أحد إلا وخرج راضياً مقتنعاً، بل نقول: نذكرك يا شيخنا وأنت تربي الأجيال في مسجد المعسكر الشمالي، نذكرك خطيباً في مسجد العباس تحرض الناس على الجهاد وتبث فيهم روح الأمل بالنصر على أعدائنا.
شيخنا، أنت المجاهد، أنت الداعية، أنت السياسي الفذ، أنت المربي، أنت القائد، أنت القائد، أنت الأب والأخ والزوج كنت أباً للفقراء والمحتاجين ما دخل عليك أحد إلا أعطيته ما أعطاك الله.
السلام عليك يا أبا محمد في الأولين والآخرين وإلى أن نلقاك في الفردوس الأعلى بإذن الله.
_____________
«الرسالة»، العدد (285).