عندما نشاهد البطون الخاوية في غزة، والأفواه الجائعة تحت الحصار، والأجساد النحيلة جراء سوء التغذية، فإن الأمر مخجل ومحزن، في وقت نرى فيه مظاهر عدة للإسراف والتبذير خلال شهر رمضان، وإهدار الطعام بشكل مستفز، يعارض ما حث عليه الإسلام من اعتدال وصون النعمة.
وتتفاقم الظاهرة في الولائم والمناسبات الاجتماعية، وحتى دون مناسبات؛ بسبب عادات وتقاليد اجتماعية لا أصل لها في الشرع، مثل ضرورة كثرة الطعام، والإسراف في إكرام الضيف، وأن الطعام يجب أن يفيض عن الحاجة، وأن طعام اليوم لا يؤكل غداً، وأن كثرة الطعام دليل غنى، وعلامة على الشبع والوجاهة!
يزداد الأسف عند الاطلاع على بيانات أوردها تقرير برنامج الأمم المتحدة للبيئة، بشأن دول عربية، منها، على سبيل المثال، مصر التي تهدر 9 ملايين طن من الأغذية سنوياً، يليها السودان بكميات 4.16 ملايين طن، والعراق بـ4.73 ملايين طن، ثم السعودية بـ3.59 ملايين طن، والجزائر 3.91 ملايين طن، والمغرب 3.31 ملايين طن، والإمارات 3.27 مليون طن، وتونس 1.06 مليون طن، وليبيا 513 ألف طن، والكويت 397.7 ألف طن سنوياً.
ويزيد معدل هدر الطعام في دول الخليج عن المتوسط العالمي للفرد البالغ 74 كيلوجراماً سنوياً؛ إذ تتصدر البحرين دول الخليج في معدلات هدر الطعام للفرد بمعدل 132 كيلوجراماً للفرد سنوياً، تليها السعودية بمعدل 105 كيلوجرامات للفرد، والإمارات والكويت وقطر وعُمان بمعدل 95 كيلوجراماً للفرد سنوياً، بحسب بيانات أممية صادرة في عام 2021م.
وهناك نحو 1.3 مليار طن من المواد الغذائية تهدر سنوياً على مستوى العالم؛ أي ما يعادل 2.6 تريليون دولار، مقابل حوالي 795 مليون شخص يعانون من سوء التغذية.
ولا يتوقف الهدر فقط عند موائد الأسرة التي تهدر وحدها نحو 25%، بل يسبقها الهدر في مراحل الحصاد والجني والنقل والشحن والتخزين وغيره، قبل الوصول إلى المستهلك، وهناك هدر آخر في المطاعم والفنادق وسلاسل التوريد.
دور المرأة
عليه، فإن دور المرأة في المنزل رئيس وفاعل، وربما يكون الدور الأكثر أهمية؛ لوقف تلك الظاهرة، والحد منها، نظراً لمسؤوليتها عن الطهي وإعداد الطعام، والتسوق، وغيره.
ومن المؤسف تفشي ثقافة بغيضة بين الأجيال الجديدة، وهي عدم تناول الطعام المعد في اليوم السابق، أو ما يعرف شعبياً بـ«الأكل البايت»، بل التأفف منه؛ ما يدفع ربة البيت إلى التخلص منه رغم صلاحيته، وإعداد طعام طازج، الأمر الذي يفاقم من ظاهرة الإسراف في بيوتنا.
ومن المقيت أيضاً تفشي «ثقافة العيب» أو الخجل من طلب ما تبقى من طعام المطاعم والفنادق، رغم الأحقية في ذلك، وإمكانية استغلاله بشكل أفضل، وتوزيعه على الفقراء والمحتاجين مثلاً.
وتتفاقم المشكلة داخل البيوت، مع إعداد كميات تفوق حاجة أفراد الأسرة، والإكثار من أنواع المأكولات، ما يتسبب في توافر فائض كبير من طعام المنزل، دون تواصل جاد مع جمعية خيرية تتولى مسألة تدوير الفائض.
حلول عملية
بالنظر إلى ما تبثه عبادة الصوم في نفس المسلم من إحساس بالفقير والمحتاج، وحرمة التبذير والإسراف، فإن الأمر يتطلب وقفة جادة لحفظ النعمة، ووقف إهدارها، وانتهاج حلول عملية للحد من تلك الظاهرة، بداية من غرس ثقافة الاعتدال وعدم الإسراف، وتفادي التخلص من بقايا الطعام، وضبط الكميات المطلوبة لكل أسرة، والتخطيط للتسوق وغيره.
ويمتد الأمر إلى ضبط أدوات القياس، من أوانٍ وأكواب وملاعق وغيره، ما يساعد على ضبط كمية الغذاء المناسبة، مع الاهتمام بتغيير عادات الشراء والتخزين، وضرورة العودة إلى السُّنة النبوية التي حذرت من الشبع، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه، بحسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا بد فاعلاً فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه» (رواه الترمذي وحسنه).
مجتمعياً ودولياً، ينصح الخبراء بالتوسع في إنشاء بنوك الطعام، ودعم جمعيات حفظ النعمة، وتكثيف حملات التوعية، وإنشاء قاعدة بيانات داعمة لهذه المبادرات، وابتكار الحلول لمنع الهدر، ووضع تشريعات للحد من الإسراف، وإدراج الأمر ضمن المناهج الدراسية، وتكثيف الأعمال الفنية الداعية لذلك.
وهناك دول تقود فعلياً تحركات جادة للحد من الإسراف في الطعام، من خلال مبادرات أو من خلال سن قوانين وعقوبات، منها حملة «حتى لا تزول النعم» في السعودية، ومبادرة «بوقفكم تدوم النعم» في الكويت، و«صحني نظيف» في البحرين، إضافة إلى مبادرات الجمعيات الخيرية في دول الخليج الأخرى لتوزيع الفائض من الولائم.
على سبيل المثال، يستهدف بنك الطعام الكويتي نشر ثقافة المحافظة على النعمة وإعادة تدويرها، وتخصيص حاويات لجمع الفائض الجيد وتقديمه للمحتاجين، وغير الجيد للطيور والحيوانات، بينما في الإمارات، يقوم «بنك الإمارات للطعام» بجمع فائض الطعام وتوزيعه على المحتاجين، من خلال توزيع 5 ملايين وجبة على المستحقين في رمضان، وإعادة تدوير 1.5 مليون وجبة من فائض الطعام غير الصالح للاستهلاك البشري، وتحويله إلى أسمدة.
نحن إذن أمام مشكلة حقيقية، تنافي تعاليم الإسلام، وتلحق بنا العار، ونحن نشاهد أهلنا في غزة يموتون جوعاً تحت الحصار «الإسرائيلي»، ونرى شعوباً عربية وإسلامية تئن من الفقر والمرض، ما يحتم علينا انتفاضة جادة ضد الإسراف، وحملة شعبية وحكومية ضد هدر الطعام.