شهر رمضان فرصة عظيمة وغنيمة باردة، ينبغي ألا تمر على المسلم دون أن يتزود منها، فرمضان طريق موصل للأرواح إلى بلاد الأفراح، وسفينة تمخر عُباب الزمان، لترسو على شواطئ النعيم ومرافئ الجنان، فأعظم فوز يحرزه العبد في حياته هو أن يفوز في رمضان؛ لأن رمضان يهيئ الرقاب للعتق من النيران والله عز وجل قال: (فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ) (آل عمران: 185)، وقد رسمت لك خطوات خمس يرجى لمن تلمسها بصدق وإخلاص محفوفين بيقين أن يكون في سباق رمضان من الفائزين، هي:
الأولى: التوبة النصوح:
الله تعالى يحب التوابين، ويفرح برجوعهم، قال تعالى: (وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً) (النساء: 110)، وفي الحديث القدسي يقول الله تعالى: «يا ابن آدم، إنك ما دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان منك ولا أبالي، يا ابن آدم، لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك».
والتوبة النصوح هي الرجوع إلى الله تعالى معترفًا بالذنب، مقرّا بالتقصير، نادمًا على الجناية، مسارعًا إلى طاعة الله، عازمًا على عدم الرجوع إلى ما يغضب الله تعالى.
فمن حقق التوبة بهذه الكيفية، فليكن على يقين أن الله تعالى غفر له، وبدل سيئاته حسنات، وبهذا يدخل العبد سباق رمضان بقلب جديد، وصحائف بيضاء نقية، مستشعرًا قربه من ربه جل جلاله.
أما من دخل رمضان وما زال مصرًّا على الذنب متمسكاً به قائماً عليه غير نادم على وقوعه فيه، فهو المحروم الذي لا حظّ له في كسب السباق؛ لأن الذنوب قيود للعزائم والهمم، وأنّى لمقيد الساقين أن يربح في سباق.
الثانية: الهمة العالية والنية الصافية:
في الصحيحين قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لو كان الإيمان في الثريا لناله رجال»، وإن من صفة هؤلاء الرجال أنهم لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، وأنهم رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وأن لهم همماً في القمم.
ويقول ابن القيم: «المطلب الْأَعْلَى مَوْقُوف حُصُوله على همة عالية وَنِيَّة صَحِيحَة فَمن فقدهما تعذّر عَلَيْهِ الْوُصُول إِلَيْهِ، فَإِن الهمة إِذا كَانَت عالية تعلّقت بِهِ وَحده دون غَيره، وَإِذا كَانَت النِّيَّة صَحِيحَة سلك العَبْد الطَّرِيق الموصلة إِلَيْهِ، فالنية تفرد لَهُ الطَّرِيق والهمة تفرد لَهُ الْمَطْلُوب، فَإِذا توَحد مَطْلُوبه وَالطَّرِيق الموصلة إِلَيْهِ كَانَ الْوُصُول غَايَته».
فلا فوز ولا سبق إلا بوقود من همة عالية وعزيمة خالصة صادقة، كعزيمة أنس بن النضر الذي غاب عن غزوة «بدر»، فتألم لفوات هذا الفضل، لا سيما بعدما نزل قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أُوْلَـئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللّهِ) (البقرة: 218)، حينها قال أنس: «والله لئن أشهدني الله مشهدًا ليرين ما أصنع»، فلما كانت غزوة «أُحد» حين انكشف الناس وحلت الهزيمة، وألقي كثير من الصحابة سلاحهم، لظنهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل، قام إليهم واعظاً ولهممهم شاحذاً، وهو يقول لهم: «قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله»، ثم قال: «والله إني لأجد ريح الجنة دون أُحد»، وظل يقاتل حتى قُتل، فلما انتهت المعركة وجدوا به بضعة وثمانين ضربة طمست ملامحه، فما عرفه أحد من أصحابه، ما عرفته إلا أخته ببنانه.
وفي علو همته وصدق عزيمته نزل قول الله تعالى: (مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً) (الأحزاب: 23)، فمن أراد أن يفوز برمضان مثلما فاز أنس في الميدان، فليصنع صنيعه وليسابق سبقه وليصدق في همته وعزيمته.
الثالثة: أن يكون الله تعالى همك الأول:
قال ابن القيم: «إذا أصبح العبد وأمسى وليس همه إلا الله وحده، تحمل الله سبحانه حوائجه كلها، وحمل عنه كل ما أهمه، وفرّغ قلبه لمحبته، ولسانه لذكره، وجوارحه لطاعته، وإن أصبح وأمسى والدنيا همه حمله الله همومها، وغمومها، وأنكادها، ووكله إلى نفسه، فشغل قلبه عن محبته بمحبة الخلق، وشغل لسانه عن ذكره بذكرهم، وجوارحه عن طاعته بخدمتهم وأشغالهم، فهو يكدح كدح الوحوش في خدمة غيره كالكير ينفخ بطنه، ويعصر أضلاعه في نفع غيره، فكل من أعرض عن عبودية الله، وطاعته، ومحبته بلي بعبودية المخلوق، ومحبته، وخدمته، قال تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ) (الزخرف: 36).
الرابعة: إيماناً واحتساباً:
أن تكون العبادات كلها إيمانًا واحتسابًا، لا من باب كونها عادات رمضانية، ولا حركات شكلية، فبعض الناس يصوم لأنه يرى من العيب أن يفطر في رمضان، وبعض الناس يصلي التراويح لأنه تعود عليها منذ الصغر، فهذا كله لا فائدة منه، إلا أن يكون إيماناً واحتساباً.
روى البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، ومَن قَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
وعنه أيضاً: «ومَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ، ومَن صَامَ رَمَضَانَ إيمَانًا واحْتِسَابًا غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
والمقصود بقول النبي صلى الله عليه وسلم «إيمانًا واحتسابًا»: أن يصوم رمضان ويقومه إيماناً؛ أي إيماناً بالله ورسوله وتصديقاً بشرعية الصيام والقيام وما أعد الله تعالى للصائمين والقائمين من جزيل الأجر.
وكذلك احتساباً؛ أي طلباً للأجر والثواب، بأن يصومه ويقومه إخلاصاً لوجه الله تعالى، لا رياءً ولا تقليداً ولا تجلداً لئلا يخالف الناس، أو غير ذلك من المقاصد، بل يصومه طيبةً به نفسه غير كاره لصيامه ولا مستثقل لأيامه.
الخامسة: صيام مودّع:
روى ابن ماجه عن أبي أيوب قال: جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، علمني وأوجز، قال: «إذا قمت في صلاتك فصلِّ صلاة مودع..»؛ والمراد: أن تستشعر في صلاتك أنها آخر صلاة تصليها، فإذا استشعرت ذلك حملك هذا الشعور على إحسان صلاتك وإتقانها وأدائها بتمام خشوعها وطمأنينتها، لأنك قد لا تتمكن من صلاة بعدها.
وكذا الأمر في صيام رمضان، ينبغي لمن أراد أن يفوز برمضان أن يستشعر وكأنه آخر رمضان يمر عليه في حياته، وأنه لا رمضان بعده، فيحمله هذا الشعور على إتقان الصوم، والإتيان به على أكمل وجه، وإن من الإحسان في الصوم أن يصوم العبد عن كل ما لا يرضي الله تعالى.
روى ابن خزيمة وصححه الألباني، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «ليس الصيام من الطعام والشراب، وإنما الصيام من اللغو والرفث»، وقال جابر بن عبدالله: «إذا صمت فليصم سمعك وبصرك ولسانك عن الغيبة والنميمة، ودع أذى الجار، وليكن عليك وقار وسكينة، ولا تجعل يوم صومك ويوم فطرك سواء».
فمن الناس من هو مغبون، يصوم في نهار رمضان عن الحلال من طعام وشراب وزوجة، في الوقت الذي تراه سابحًا في بحور الحرام، من غيبة ونميمة وغش ونظر إلى النساء، وقد لفت النبي صلى الله عليه وسلم أنظارنا إلى هذا الصنف من الناس فقال: «رب صائم حظه من الصيام الجوع والعطش، ورب قائم حظه من القيام السهر»، وعند البخاري: «من لم يدع قول الزور، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه».
فهذه معانٍ غائبة عن فهم كثير من الناس، ولذا فهم يصومون رمضان تلو رمضان دون أن تتحسن أمورهم، أو تنصلح أحوالهم أو يستشعروا أنهم قد أعتقوا من النار، ولو أنهم صاموا صيام مودع لتبدلت الأحوال ولذاقوا لذة الفوز في رمضان، تلكم اللذة التي لا تتأتى إلا لمن سار على طريقها.