يقصد بالمدنيين كل إنسان لا يشارك في القتال رجلاً أو امرأة، شيخاً أو شاباً، ففي أثناء القتال ضرب الإسلام أروع الأمثلة في النبل والفروسية والإحسان لغير المحاربين، وأوجب الحماية الكاملة لكل إنسان لا يشارك في القتال، وأوجب حماية الحيوانات والنباتات والحجر والشجر، وكل مظاهر وأشكال البنية التحتية -بلغة العصر- وهذا سبق حضاري لم تعرف له الإنسانية نظيراً عبر الزمان والمكان.
وقد ضربت المقاومة الفلسطينية أروع الأمثلة في معاملة الأسرى معاملة كريمة تليق بأخلاق الإسلام، في حين ضرب الاحتلال أقبح الأمثلة في معاملة الأسرى، وقد شهدت شاشات التفلزة الكثير والكثير من هذه الفيديوهات التي توثق المعاملة الفاضلة من جانب المقاومة، والمعاملة الشريرة من جانب الاحتلال.
وكان هذا امتثالاً لأوامر الشرع الحنيف التي تفرض معاملة الأسرى والمدنيين معاملة كريمة، فقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل النساء والولدان في أثناء القتال، فعن ابن عمر: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل النساء والصبيان» (رواه البخاري ومسلم ومالك في الموطأ).
وفي الوصية الشهيرة للخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه، لقائده يزيد بن أبي سفيان: «إنك ستجد أقواماً زعموا أنهم حبسوا أنفسهم لله فذرهم وما زعموا أنهم حبسوا أنفسهم له، وإني موصيك بعشر: لا تقتلن امرأة، ولا صبياً، ولا كبيراً هرماً، ولا تقطعن شجراً مثمراً، ولا تخربن عامراً، ولا تعقرن شاة ولا بعيراً إلا لمأكله، ولا تحقرن نخلاً، ولا تغلل، ولا تجبن» (رواه مالك في الموطأ).
فهذه الأحاديث توضح الأساس المتين، والدستور القويم لمعاملة المدنيين في أثناء القتال، وأن الإسلام فرض حماية المدنيين في القتال حماية شاملة، تشمل حماية نفوسهم، وصيانة دمائهم، وتأمين ممتلكاتهم، وقداسة أعراضهم، وحمايتها حماية كاملة وتجريم المساس بها، وبهذا حقق الإسلام سبقاً حضارياً للحضارة الإنسانية قاطبة بأكثر 1300 عام، قبل أن تعرف الحضارة الإنسانية اتفاقيات جنيف، ومعاهدات حقوق الإنسان، وأمثال هذه المعاهدات الكثر، التي لا يعرفها المنتصر أبداً، ولا يذكرها إلا ضحايا الحروب، وهم يصرخون، ولا يسمع أحد أنينهم، ولا يتأوه أحد لتوجعهم.
والكلام النظري رائع جداً في كل الأمم، وسائر الدول، ومختلف الحضارات، والتطبيق العملي تسوده الوحشية، إلا في دين الإسلام فكان التطبيق مثالياً، كما كانت النظرية مثالية سباقة في ميدان الحضارة، ولنضرب على ذلك مثالاً يؤكد ما نقول، ونثبت من خلاله أن الحرب في الإسلام لحماية النفوس، وفي غير الإسلام لقطع الرؤوس، وأن الإسلام يحمي المدنيين وممتلكاتهم أثناء القتال.
غزوة «تبوك» نموذجاً
كانت غزوة «تبوك» في رجب 9هـ، وكان تعداد جيش المسلمين 30 ألف مقاتل بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم.
خرج الجيش من المدينة المنورة ليُؤدِّب جيش الرومان أكبر قوة عسكرية في العالم في حينه، واستغرق جيش المسلمين شهرًا في الطريق حتى يصل إلى تخوم أرض الروم في تبوك، وقبل وصول جيش المسلمين فَرَّ هاربًا من أمامه جيشُ الروم، وهو أكبر قوة عسكرية في العالم في هذا الوقت.
مكث النبي صلى الله عليه وسلم في أرض تبوك 20 يومًا ليثبت للعالم وقتها تفوُّق جيش المسلمين على جيوش الرومان التي كانت تحكم قرابة نصف العالم في هذا الوقت، ثم قَفَلَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عائدًا إلى المدينة المنورة بجيوش المسلمين مُظفَّرًا بنَصْر تاريخي.
ولنا هنا ملاحظات تؤكِّدها وقائع التاريخ:
1- لم يقتل جيش المسلمين في هذه الغزوة فردًا واحدًا من الكُفَّار ولا من غيرهم.
2- لم يجرحوا فردًا واحدًا.
3- لم تُدمَّرْ قرية ولا مدينة ولا قبيلة على مدار شهر ذهابًا وشهر إيابًا و20 يومًا مكوثًا في تبوك.
4- لم تُغتَصب امرأة واحدة.
هل رأى العالم في التاريخ كله جيشًا قوامه 30 ألف مقاتل يخرج في طريق طويلة تقترب من ألف كيلو متر أو يزيد، ويمكث في مهمته قرابة 3 أشهر، ويمُرُّ على الأخضر واليابس، والخرب والعامر، ولا يقتل إنسانًا واحدًا، ولا تُغتَصب امرأة واحدة، ولا تخرب قرية واحدة؛ بل أكثر من ذلك لم يغتصبوا دينارًا ولا درهمًا من غيرهم، ولم يُدمِّروا حَجَرًا، ولم يقتلعوا شجرًا، ولم يقتلوا بَشَرًا!
الوقائع والتاريخ يثبتان للدنيا كلها أن جيش المسلمين يتربَّع على قِمَّة أخلاق العالم كله بلا منافسٍ ولا منازعٍ، وأن حروب المسلمين كانت لحماية النفوس، وحروب غيرهم كانت لقطع الرؤوس، وأن دين الإسلام يأمر بالمحافظة على نفوس الأعداء والأولياء على السواء.
معاملة المدنيين أثناء القتال في الشريعة اليهودية
تأتى النظرية دائماً بتعاليم مثالية، وقيم جمالية، وأخلاق رفيعة، ومبادئ نبيلة، وحين يقوم الإنسان بتطبيق هذه النظرية على أرض الواقع، تحدث تجاوزات كبيرة، وأخطاء جسيمة في الأعم الغالب من واقع المجتمعات البشرية.
وفى تجارب التاريخ الطويلة تثبت الوقائع بما لا يدع مجالاً للشك، أن الإنسانية لم ترتق إلى قمة الحضارة الإنسانية إلا حين اتخذت الإسلام ديناً، وهي مرشحة للعودة إلى القمة، كلما عادت إلى دين الإسلام.
أما شريعة اليهود الماثلة أمامنا، والبادية أمام ناظرينا، فقد جاءت بمبادئ سافلة، وتعاليم فاحشة تدعو إلى الشرور التي لا تخطر على بال، فتوراة اليهود تدعو إلى الإبادة الجماعية، لأمم الأرض كلها، التي لا تدين باليهودية، وإذا بحثت في الوجود كله فلن تجد ديناً أحل الموبقات، وأباح المهلكات، ونشر الفساد مثل توراة اليهود، وإذا كانت المبادئ النظرية على هذا الدرك من الانحطاط فكيف سيكون التطبيق العملي، لا شك أنه سيكون الصورة الأشد قبحاً لحيوان في شكل إنسان، وسيبدو جلياً أنه الأشد سقوطاً، والأسرع انحطاطاً، والأقبح منظراً، والأضل سبيلاً.
يقول د. محمد عمارة، في كتابه «الإسلام والآخر»: «أما موقف اليهودية التوراتية، من قتال وقتل الآخرين والأغيار، فإنه بإيجاز: الإبادة لكل الآخرين، حتى ولو كانوا لا علاقة لهم بالقتال وفنونه، أو حتى نيته والتفكير فيه، الإبادة لمطلق الناس، وعموم النفوس، بل وللبيئة والمحيط اللذين يعيش فيهما هؤلاء الآخرون، شريطة أن يكون اليهود على هذه الإبادة قادرين».
وسننقل نصوصاً قليلة، ومقطوعات يسيرة من توراتهم:
«إن سمعت عن إحدى مدنك التي ىعطيك الرب إلهك لتسكن فيها، فضرباً تضرب سكان تلك المدينة بحد السيف، تجمع كل أمتعتها إلى وسط ساحتها، وتحرق بالنار المدينة، وكل أمتعتها كاملة للرب إلهك، فتكون تلاً إلى الأبد، لا تبنى بعد، لكي يرجع الرب عن حمو غضبه، ويعطيك الرحمة» (سفر التثنية: إصحاح: 13:17).
فهل هذا إله؟! من يزعمون أنه لا يرحم، إلا المجرمين، وليس أي مجرمين، إنهم لا بد أن يحرقوا بالنار، وأن يقوموا بجرائم إبادة جماعية لغير اليهود، أو من يسمونهم الأممين أو الأغيار، ومن هؤلاء الأغيار المديانيين، فقد أمر الرب –يهوه– النبي موسى بقتل المديانيين بحرقهم، وحرق ممتلكاتهم، وكأنه رئيس عصابة، وأحياناً تجد عند رئيس العصابة شيئاً من الرحمة، أما هؤلاء فلا يعرفون من الرحمة شيئاً.
جاء في سفر «العدد»: «وكلم الرب موسى قائلاً: انتقم نقمة لبنى إسرائيل من المديانيين، فكلم موسى الشعب قائلاً: جردوا منكم رجالاً للجند، فيكونوا على مديان، كما أمر الرب وقتلوا كل ذكر، وسبي بنو إسرائيل نساء مديان، وأطفالهم ونهبوا جميع بهائمهم، وجميع مواشيهم، وكل أملاكهم، وأحرقوا جميع مدنهم بمساكنهم وجميع حصونهم بالنار، وأخذوا كل الغنيمة، وكل النهب من الناس، والبهائم، وأتوا إلى موسى وألعازار الكاهن، وإلى جماعة بني إسرائيل بالسبي والنهب، والغنيمة» (سفر العدد: إصحاح: 31).
فأين هذا من تعاليم الإسلام، وأحكام القرآن، التي تدعو إلى التعاون، والتراحم والتكافل والبر والعدل بين الإنسانية كلها، والتي لا تفرق بين عرب وعجم، ولا بين أسود ولا أبيض؟! فقد قال صلى الله عليه وسلم: «لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين» (رواه الترمذي وأبو داود).
وانظر إلى كتاب الله عزوجل وهو يقول: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ) (المائدة: 32).
فالقرآن الكريم صريح جداً في تحريم قتل النفس، والنفس هنا كل نفس إنسانية مسلمة أو كافرة، فقتل غير المسلم حرام، بل إن إيذاء غير المسلم حرام.
إنها تعاليم إنسانية مقابل تعاليم شيطانية إرهابية.