بمناسبة شهر رمضان المبارك، تطرقت صحيفة «لوفيغارو» لموضوع الأئمة المبعوثين إلى فرنسا من بلدان إسلامية وخاصة المغرب والجزائر وتركيا، مشيرة إلى أن القرار الرسمي بإيقاف العمل بنظام الأئمة المبعوثين بعد رمضان في إطار ما اعتبره الرئيس إيمانويل ماكرون «انفصالية» إسلامية عن قيم الجمهورية الفرنسية، هو قرار للتوظيف السياسي ولا يغيّر من الوضع شيئاً، ووصفت نهاية الأئمة المبعوثين بـ«الوهم الكبير» في الحد من الـتأثير الخارجي.
استهداف «الإسلام القنصلي»
وتقول الصحيفة: إن رمضان (عام 2024م) آخر رمضان في فرنسا يُسمح فيه بحضور أئمة مبعوثين من بلدانهم، ويعود هذا المنع إلى قرار من أعلى هرم السلطة بهدف الحدّ من التأثيرات الأجنبية على الحضور الإسلامي في فرنسا، وذلك عن طريق إجراءات من بينها إيقاف العمل بنظام الأئمة المبعوثين من بلدانهم، من أجل الحد من نفوذ ما يسمى بـ«الإسلام القنصلي» الذي ترى فيه السلطات الفرنسية نوعاً من السيطرة السياسية لوزارات الشؤون الدينية في البلد الأصل.
وكان ماكرون قد صرّح في 18 فبراير 2020م، في مدينة ميلوز بمنطقة الألزاس بقوله: «لقد ورثنا نظامًا يسمى غالبًا «الإسلام القنصليّ»؛ أي أننا نستورد كل عام بانتظام أئمة معينين ومدربين من قبل حكومات أخرى، الذين لا يتقنون لغتنا قليلاً أو تماماً في بعض الأحيان، مع ما لاحظناه من تجاوزات».
وأعلن بنفس المناسبة عن قانون «الانفصالية» الذي تحول إلى تشريع تم التصويت عليه في 24 أغسطس 2021م، وعرف بـ«القانون المثبت لاحترام قيم الجمهورية»، ومنذ ذلك الوقت، والإعلام يربط الانفصالية بالمسلمين أساساً، وتعرّفها الصحيفة بـ«رؤية للدين الإسلامي المنفصل قصدًا عن الواقع الفرنسي الجمهوري والعلماني، حيث تبني الجاليات المسلمة عالمًا محكمًا قائمًا على الشريعة الإسلامية»، وهي مقاربة لصحيفة يمينية تؤيد التوجه الرسمي المتماهي مع الطرح الشعبوي لليمين المتطرف في مسألة الهجرة.
إلا أن استهداف الأئمة المبعوثين ليس سوى دعاية إعلامية في نظر الصحيفة لإيهام وسائل الإعلام والسياسيين الفرنسيين بأن مشكلة التطرف ستحل بطرد الأئمة الأجانب، في حين ترى بأن هؤلاء ليسوا سوى أقلية يقدر عددهم بـ300 إمام على مجموع 1900 إمام يؤمون الصلوات في 2900 مسجد ومصلّى، وهذه الأقلية من المبعوثين ليست لها علاقة بمشكلة التطرف، فقد تم اختيارهم بعناية من قبل حكوماتهم.
وهْم التخلص من الأئمة الأجانب
ثم بينت كيف أن التخلص من الأئمة الأجانب ليس سوى وَهْم، ذلك أن القانون يعطي الفرصة لهؤلاء بالبقاء إذا توفرت 3 شروط على الأقل؛ وهي: التزام المساجد في فرنسا التي تعتمدهم بدفع رواتبهم بدل سلطات بلدانهم، بحيث يصبحون أُجراء لدى هذه المساجد، ولكي يتم اعتماد هؤلاء الأئمة لمهمة الإمامة أو الخطابة في دور العبادة هناك شرطان آخران؛ وهما: اجتياز امتحان اللغة الفرنسية، والحصول على دبلوم جامعي تتويجاً لتكوين إجباري على غرار المرشدين الدينيين، ويتضمن هذا التكوين دروساً عن العلمانية والقيم الجمهورية.
وأوضحت عملية استقصاء -قامت بها الصحيفة لمسؤولي الفيدراليات الإسلامية الثلاث المرتبطة بكل من المغرب والجزائر وتركيا- شروع هذه الجهات في توظيف هؤلاء الأئمة المبعوثين تدريجياً، لكن هذه الجهات أثارت بعض الإشكاليات مثل صعوبة التعاقد مع الأئمة بالنسبة للمساجد الصغرى التي تكون مواردها ضعيفة، كما أن قرار المنع بعد رمضان يطرح إشكالاً لبعض الأئمة الذي ينوون العودة إلى بلدهم الأصل ولهم أطفال في المدارس يزاولون الدراسة إلى العطلة الصيفية، من ناحية أخرى هناك مخاوف من تداعيات الفراغ في منصب الإمامة الذي يحدثه منع الأئمة المبعوثين، فتضطر بعض المساجد إلى اللجوء إلى أشخاص تلقوا تكوينهم عن طريق إنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر فيه أخطار الانزلاق إلى خطاب التطرف.
الاتحادات الإسلامية الحَكَم في موضوع الإمامة
وتشير الصحيفة إلى مفارقة أخرى، وهي أن الدولة الفرنسية التي تريد حصر النفوذ الأجنبي على مسلمي فرنسا، مضطرة إلى التعامل في مسألة الإمامة مع الاتحادات الإسلامية ذات الانتماءات الجزائرية والمغربية والتركية، التي تشرف على نسبة كبرى من الأئمة الناشطين في فرنسا، وقامت الاتحادات الإسلامية بتقديم مشروع للنظام الأساسي للإمام، إلا أن الرئيس ماكرون استفاد من خلافات داخل «المجلس الفرنسي للديانة الإسلامية» (CFCM) الهيئة الوطنية الممثلة للمسلمين، لقطع العلاقة في ديسمبر 2021م مع هذا المجلس، وإرساء «منتدى إسلام فرنسا» (FORIF) محله في فبراير 2022م مكوناً من أشخاص يتم اختيارهم من الدولة وهم تحت رقابة محافظي الشرطة وغير منتخبين، في حين كان اختيار ممثلي المسلمين من المساجد واتحادات المسلمين، ووصفت الصحيفة هذا القرار بـ«الخطيئة الأصلية»؛ لأنه يريد تجاوز هذه الاتحادات التي في الواقع هي الحَكَم.
وأمام الوضع الملحّ، ضغط وزير الداخلية جيرار دارمانان، في 26 فبراير الماضي، على «المنتدى» وأجبره على وضع نظام أساسي جديد للإمام في غضون 6 أشهر، لكن «المنتدى» لا يحظى بثقة جميع المساجد في فرنسا، وفي هذا السياق تقول الصحيفة: تبدو عملية ملاحقة الأئمة المبعوثين مثيرة للتعجب لوجود العديد من الشكوك لدى الأوساط الإسلامية في المدى الحقيقي لهذا الإجراء إدراكًا منها للتوظيف السياسي للملف.
إثارة إشكالية تكوين الأئمة
ويبدو أن تقرير الصحيفة موجّه لإثارة ما أسمته بالزاوية الخفية التي تحرص السلطات الفرنسية على عدم الحديث عنها في ملف النزعة الانفصالية الإسلامية، وهي أن الغالبية العظمى من الأئمة الحاليين -البالغ عددهم 1900 إمام يمارسون مهمتهم في فرنسا- كانوا موجودين بشكل أساسي في الخارج، وتلقوا تكوينهم الديني في بلاد عربية ومسلمة.
ثم إن الصحيفة ركزت على كون الأئمة الذين هم من ثمرات البيئة الفرنسية تلقوا تكوينهم في فرنسا وتخرجوا في غالبيتهم في «المعهد الأوروبي للعلوم الإنسانية»، وتوجد المؤسسة الأم وسط فرنسا بمدينة شاتوشينون، ولها فرع في باريس، لتصل إلى نتيجة تثير بها الرأي العام، وهي أن هذه المؤسسة أنشأها ويديرها المسؤولون السابقون لاتحاد المنظمات الإسلامية بفرنسا المقرب من جماعة الإخوان المسلمين، كما جاء في الصحيفة، ومعلوم أن هذا المعهد هو أول مؤسسة لتكوين الأئمة في أوروبا تأسس عام 1992 وتخرجت فيه أجيال من الأئمة والدعاة، ولتكي ترسخ الصورة المشوهة للمؤسسة، ختمت التقرير بقرار الدولة إبعاد د. أحمد جاب الله، أحد القادة التاريخيين للاتحاد، عميد سابق للمعهد في باريس، الذي اضطر إلى مغادرة الأراضي الفرنسية والعودة إلى تونس.
ويُفهم من تقرير صحيفة «لوفيغارو» اليمينية محاولة الإقناع بأفضلية التعامل مع الأئمة المبعوثين لأنهم تحت رقابة حكوماتهم، بدل ترك المجال للمؤسسات الإسلامية العاملة في فرنسا للقيام بعملية تكوين أئمة يحملون فكراً إصلاحياً يجمع بين الوعي بفقه الدين وفقه الواقع، ومثل هذا التكوين تريد جهات إعلامية وسياسية حشره في زاوية الدعوة إلى «الانفصالية» الإسلامية.