يعد شهر رمضان فرصة عظيمة لا تقدر بثمن، لكي ينتقل حال المسلم مع كتاب الله، من القراءة، إلى التفكر والتدبر، والعمل بإخلاص، إذا لامس كلام المولى عز وجل القلب، ونفذ إلى الوجدان، فالقرآن كلام الله، والقلب خلق الله، وكلام الله يُصلح خلق الله.
وقد يقبل المسلم على كتاب الله بشغف خلال رمضان، وهو أمر لا يضاهيه الحال في شهور العام الأخرى، لكن هذا الشغف في حاجة إلى آلات تحرث وتطهر وتغرس ليحصد المرء الخير كله.
لنأخذ سوياً جولة داخل المصنع القرآني، ننهل فيها من كتاب الله، في رحلة مليئة بالسكينة والطمأنينة، ارتقاء إلى حالة من السمو الإيماني والروحاني والعقلي والجسدي.
هذه الجولة لا تستهدف قراءة القرآن باللسان فقط، بل تحقيق الوصال بين القلب والقرآن حتى يكتمل البناء الإيماني، وترتقي النفس، ولن يتأتى ذلك إلا بإعمال آلات المصنع القرآني في النفس البشرية، فتصلح العطب، وتقوم المسار، وتنتج فسائل الفضيلة.
ليس المراد أن نقرأ القرآن فقط، أو أن نختمه أكثر من مرة خلال الشهر الفضيل، أو أن نتباكى عند ورود آيات الموت والحساب، أو أن تنفرج أساريرنا عند دندنة آيات الجنة والنعيم.
لكن المراد من الولوج إلى المصنع القرآني، هو التماس والتفاعل والتناغم مع آيات الله، فلا نترك آية إلا وقد أحدثت صدى وتأثيراً وصنيعاً في النفس البشرية، فتخرج من كتاب الله، وقد علاها الصدأ، ونخرت فيها الذنوب والمعاصي، بنفس ثانية، وروح جديدة، غير تلك التي دخلت إليه، مفعمة بالإيمان والعمل.
مصنع قرآني، يدخل إليه المنتج البشري، فتجري عليه تعديلات حقيقية، تسد الثغرات، وتصوب الخطأ، وتطور الأداء، فيخرج ذلك المنتح بصورة مختلفة، بتاريخ إنتاج جديد، وصلاحية جديدة.
عندما يقرأ المؤمن قول الله عز وجل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً) (الإسراء: 23)، فهو لا يغادر سريعاً، بل يعيد القراءة مراراً، ويتمعن المعاني، ويتدبر ويتفكر، ويراجع نفسه، ويحاسبها عما اقترفته في حق والديه، فيستغفر وينوب، ويعود معتذراً وباراً بوالديه، غير مقصر في حقهما، بل يزداد براً بهما، وقد تعهد أمام الله ببر الوالدين.
لتكن تلك الآية هي هدفه، ومنهجه، وشعاره، ليكن العمل قرين القول، لتنتقل الحال من قراءة القرآن إلى العمل به، فيتجاوز الأفواه إلى الصدور، هنا سيتحقق المراد من المصنع القرآني، ووقتها سيتغير الإنسان إلى الأفضل، وسيسير المرء على طريق النبي صلى الله عليه وسلم؛ «كان قرآناً يمشي على الأرض».
وعندما يدندن المؤمن بقوله تعالى: (مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ) (ق: 18)، فلتكن تلك الآية هي ورده اليومي، لا أقصد القراءة فحسب، بل العمل والتطبيق، وأن تكون نهجاً له، فيقوّم لسانه، ويوقف فلتاته، ويصلح ما صدر عنه، وهو يعلم يقيناً أن لديه ملكاً يرقب قوله من خير وشر ويكتبه، فيصير ذاكراً لله، ناطقاً بالخير، رسولاً للفضيلة.
وعند الولوج إلى الآية القرآنية: (وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً) (الإسراء: 29)، فإن إعمال الآية في نفسك هو الهدف لإصلاح العطب، وتصويب الطريق، وتجسيد الآية فعلاً وخلقاً هو المراد من المصنع القرآني، لتكون حال المؤمن بعد القراءة والتدبر، غير حاله قبلها، فلا يمسك يده عن الإنفاق في سبيل الخير، ولا يضيق على نفسه وأهله والمحتاجين، وفي الوقت ذاته، لا يسرف في الإنفاق، فيقعد ملوماً يلومه الناس، نادماً على تبذيره.
الأمثلة كثيرة، وقد ضربنا ثلاثة منها فقط؛ لتبيان آلية تشغيل المصنع القرآني في النفس البشرية، وكيفية إعمال آيات الله في الصدور، فتتحقق مطابقة القول العمل، وقد ذكر القرآن الكريم من يخالف قوله فعله؛ فقال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ {2} كَبُرَ مَقْتاً عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ) (الصف).
إن الحاجة ماسة وملحة وعاجلة لهذه الرحلة الإيمانية بين جنبات المصنع القرآني، رحلة من نوع آخر، تختلف عما كان في السابق من قراءة لا تتجاوز الحناجر، وتلاوة لا تلامس سوى الألسنة، وختمة تلو الختمة، دون أثر في النفس، أو عطب ينصلح، أو خلق يُكتسب، أو روح جديدة تسري في القلب والجسد.
إن تلك الرحلة إلى المصنع القرآني لهي دعوة جديدة، ونحن في شهر رمضان المبارك، إلى هجرة حقيقية إلى كتاب الله، وإلى تشبث واعتصام بالذكر الحكيم، واستمساك بهديه ونوره، بل إن هذا المصنع لهو طوق نجاة من هجر القرآن، الذي طال الكبير والصغير، فصار المصحف يُقرأ فقط في رمضان، أو يختم كل شهر لساناً، وقد هجرته القلوب والعقول، فهل آن لنا أن نستفيق لنُعمل آي الله في نفوسنا وصدورنا؛ (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ) (الحديد: 16).