الأخلاق صفات مكتسبة يستطيع الإنسان تغيرها للأفضل، وخلال الصيام يتعود المسلم على التدريب على ضبط سلوكياته، والصيام يؤدي دورًا فعالاً في هذا التغيير، فالإنسان الذي يستطيع أن يعتزل المباح من شهواته بعض الوقت، ويستطيع أن ينتهي عن الحرام والمذموم من السلوكيات أن تسير على ذلك النهج طوال العام وليس مستحيلاً.
ولا بد للإنسان أن يتوفر لديه الجانب المعرفي الذي يدفعه إلى القيام بعمل معين يطلب منه، ويعزز لديه التضحية من أجل أن يصل إلى غايته، وقد أوضح سبحانه عظم الفوائد التي ينطوي عليها صيام رمضان بقوله: «لعلكم تتقون»، «وَأَن تَصُومُوا خَيْرٌ لَّكُمْ»، وإن لم يحقق المسلم بالصوم التقوى؛ فقد أخل بالغرض الذي شرعت العبادة من أجله، وإن حبس نفسه عن الطعام والشراب وشارك الناس الصوم.
وورت كذلك الأحاديث النبوية التي تبين عظم أجر الصائمين؛ ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفر له ما تقدم من ذنبه»(1)، و«إن في الجنة بابًا يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيامة، لا يدخل منه أحد غيرهم، يقال: أين الصائمون؟ فيقومون، لا يدخل منه أحد غيرهم، فإذا دخلوا أغلق، فلم يدخل منه أحد»(2)، والأحاديث في فضل الصيام كثيرة.
الصيام.. وضبط السلوك الاندفاعي
ضبط النفس معناه حبس الغضب وكظم الغيط، وأن نأخذ الأمور بهدوء، وأن ننظر إلى عواقبها، ويندرج الصبر في علم النفس تحت مسمى «ضبط النفس»، فكل إنسان له مقدرة معينة عند التعرض للضغوط أو المهمات الشاقة؛ فالفرد نفسه هو المسؤول عن ضبط سلوكه والتحكم فيه، وصراع النفس لتحقيق شهواتها أمر جبلت عليه، وعندما تزداد حاجات الجسد تسيطر عليه؛ ويظهر أثرها في سلوكه وتصرفاته(3).
وهناك عدة عوامل تساهم في تشكيل السلوك الأخلاقي للإنسان، منها العوامل المعرفية كالمعتقدات، والعوامل المجتمعية كالعادات والتقاليد، والعوامل الثقافية كمنظومة القيم، والعوامل الاقتصادية كالفقر والغنى، والعوامل البيولوجية، وكل هذه العوامل تحفز السلوك الأخلاقي أو تكبحه.
ومن بين هذه العوامل المختلفة نلتمس الحديث عن العامل النفسي في حالة الصيام وعلاقته بظهور السلوك الأخلاقي لدى الصائم، وتوجد علاقة وثيقة بين الجوع والعطش وانخفاض مستوى السكر في الدم أثناء الصيام؛ فتقل القدرة على ضبط النفس والسيطرة على الانفعالات؛ ولهذا تجد الإرشاد النبوي إلى التحلي بالصبر وبحسن الأخلاق خلال الصيام، ولذا عُدّ الصيام نصف الصبر.
والإنسان في حالة الغضب والانفعال الشديد يتعطل فكره، ويندم كثيرًا على ما يصدر منه أثناء الغضب، وقد أثبت الطب حديثًا أن الغضب والانفعال سبب لكثير من الأمراض المزمنة، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصائم عن مجاراة السفهاء إذا ما تطاولوا بشتم أو سباب، و«إني صائم» تمثل شعار المسلم نحو للتغيير الذي يضبط به المسلم نفسه في تعامله مع من يتجاوز معه امتثالاً لقوله صلى الله عليه وسلم: «فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا َيرْفُث ولا يصخب، فإن سابه أحد أو قاتله؛ فليقل إني صائم»(4).
والصيام يؤدي إلى ضبط رغبات النفس وتهذيب الأخلاق؛ فالإمساك عن الطعام والشراب في شهر رمضان تدريب للإنسان على ضبط نفسه وقوة الإرادة وصلابة العزيمة في سلوكه العام في الحياة، وفي القيام بمسؤولياته وأداء واجباته، وفي ذلك أيضاً تربية لضمير الإنسان، فيصبح ملتزمًا دائمًا بحسن السلوك المراقب من ضميره من غير حاجة إلى رقابة أحد عليه(5).
وللصيام أثر في الإقلاع عن السلوك الإجرامي، يقول محمد رشيد رضا في تفسيره «لعلكم تتقون» في آية الصوم: هذا تعليل لفرضية وبيان فائدته الكبرى وحكمته العليا، وهو يعد نفس الصائم لتقوى الله تعالى يترك شهواته الطبيعية المباحة الميسورة امتثالاً لأمره واحتسابًا لأجر عنده؛ فتربى بذلك إرادته على ملكة ترك الشهوات المحرمة والصبر عندها، فيكون اجتنابها أيسر عليه، وتقوي على النهوض بالطاعات والمصالح، فيكون الثبات أهون عليه.
والابتعاد عن مساوئ الأخلاق بتربية النفس على لزوم الصدق في القول والعمل، ذلك من خلال لزوم الحقّ والصواب، والوفاء بعهد النفس على الطاعة والعمل، وموافقة الظاهر للباطن، بعيداً عن الكذب، والنفاق، فتتعزّز الأخلاق العظيمة في النفس أيضاً؛ بإدراك الأجر المُترتّب على الصيام، والحرص على عدم ضياعها؛ بالزور، أو الكذب، فيحمل المسلم نفسه بذلك على لزوم الصدق، والطاعة في صيامه؛ ليضمن بذلك تحقيق الأجر المُترتّب عليه، ولذا أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالابتعاد عن قول الزور بقوله: «من لم يَدَع قول الزور والعمل به، فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه»(6).
الصيام.. وضبط رغبات النفس
يدعو الإسلام إلى التوسط والاعتدال في إشباع دوافعه الفسيولوجية وحاجاته النفسية والروحية، وينهى عن الإسراف في إشباع أيّ منهما، فلا إباحية في تحقيق شهواته، ولا زهد فيها برهبانية روحية؛ فإن جميع دوافع الإنسان وشهواته الجسدية من طعام وشراب وجنس وانفعال قابلة للضبط والتعديل، فالإنسان يتعلم كيف يضبط دوافعه ويتحكم فيها ويسيطر عليها، وهو ما تهدف إليه التربية، فالصراع بيد الدوافع النفسية المتعارضة يقوي أحد الدافعين إذا وجد ما يحفزه على حسم الصراع لصالحه، والصيام يحفز الدوافع الروحية ويضعف الدوافع الفسيولوجية.
ولما أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن عبدالله بن عمرو بن العاص أراد أن يصوم دهره ويقوم ليله، قال له: «فلا تفعل، صُم وأفطر، وقُم ونم، فإن لجسدك عليك حقاً، وإن لعينك عليك حقاً، وإن لزوجك عليك حقاً، وإن لزورك عليك حقاً، وإن بحسبك أن تصوم كل شهر ثلاثة أيام، فإن لك بكل حسنة عشر أمثالها»، قلت: يا رسول الله، إني أجد قوة، قال: «فصم صيام نبي الله داود عليه السلام ولا تزد عليه»، قلت: ما كان صيام نبي الله داود عليه السلام، قال: «نصف الدهر»، فكان عبدالله يقول بعدما كبر: يا ليتني قبلت رخصة رسول الله صلى الله عليه وسلم(7).
ولا يشعر الإنسان بنعم الله إلا عند فقدها، فلذة الطعام والشراب لا يشعر بها الإنسان إلا عند الجوع والعطش أو عقب تعافيه من المرض، فلا يعرف نعمة الصحة إلا من ابتلي بمرض، فالإنسان يمل حياته إذا سارت على وتيرة واحدة، فالراحة في الليل له لذة بعد التعب في النهار، والدفء متعة بعد البرد، واليسر له راحة نفسية بعد العسر.
_____________________
(1) فتح الباري كتاب الصوم باب من صام رمضان إيماناً واحتساباً ونية (1901)، ج4، ص 115.
(2) فتح الباري، كتاب الصوم، باب الريان للصائمين (1896)، ج 4، ص111.
(3) د. بهاء الدين جلال، مهارات وفنيات تعديل السلوك، ص57.
(4) فتح الباري، كتاب الصوم، باب هل يقول: إني صائم إذا شتم (1904)، ج4، ص 118.
(5) د. محمد عثمان نجاتي، الحديث الشريف وعلم النفس، ص294.
(6) فتح الباري، كتاب الصوم، باب من لم يدع قول الزور والعمل به في الصوم (1903)، ج4 ص 117.
(7) المرجع السابق، باب حق الضيف في الزوج (1975)، ج4، ص217.