تسللت التكنولوجيا الرقمية لكافة مناحي الحياة؛ السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية، وصارت جزءاً من الحياة الإنسانية، لا يمكن الاستغناء عنها أو تجاهلها، أو اتخاذ موقف عدائي منها، وهذه السطوة الرقمية المفرطة، يظل لها وجهان كبيران؛ أحدهما يعطي الكثير من التيسير والرفاهية والسرعة في الإنجاز، أما الآخر فهو يسيطر على الإنسان سيطرة شبه شاملة.
ومن المجالات التي طرقتها التكنولوجيا الرقمية مجال الحكم والسياسة، سعياً لتحقيق ما يسمى بـ«الحكم الرشيد»، من خلال اللجوء إلى ما يسمى بـ«الأتمتة»(1)، ورغم غياب تعريف دقيق لمفهوم الحكم الرشيد، لكن يمكن إجماله بأنه «كل عمليات الحكم والمؤسسات والعمليات والممارسات التي يتم من خلالها اتخاذ القرارات بشأن القضايا ذات الاهتمام المشترك وتنظيمها»، ومن ثم فالحكم الرشيد يمنح معايير للحكم على ممارسات السلطة وأدائها، من خلال التزامه بحقوق الإنسان السياسية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
هدف «الأتمتة» تحسين كفاءة العمليات الحكومية لتسهيل حصول المواطنين على الخدمات
أما هدف «الأتمتة» فهو تحسين كفاءة وفعالية العمليات الحكومية، من خلال تسهيل حصول المواطنين على الخدمات والمعلومات الحكومية، ومن خلال مساعدة موظفي الحكومة على العمل بكفاءة أكبر، وتحسين جودة الخدمات الحكومية.
قيم الحكم الرشيد
يفترض الحكم الرشيد توفر مجموعة من القيم، منها: الشفافية، والمسؤولية، والمشاركة، والالتزام بحقوق الإنسان، وتتجلى العلاقة بين حقوق الإنسان والحكم الرشيد، في عدة مجالات، منها:
– المؤسسات الديمقراطية: مثل البرلمانات والنقابات، فاحترام حقوق الإنسان في تلك المؤسسات يتيح مشاركة الرأي العام في عملية اتخاذ القرار، والرقابة.
– الخدمات العامة: يفترض الحكم الرشيد توفير الخدمات الحكومية للناس، وتحسين قدرة الجهاز الحكومي على خدمة الناس، والوفاء بالتزامات الحكومة تجاه المواطن، وتوفير الحقوق الأساسية للمواطن، وتيسير حصوله عليها، في إطار من الشفافية والمساواة والمشاركة.
– سيادة القانون: ويفرض ضرورة وجود دستور شارك المجتمع في صنعه، وخضوع الجميع للمساواة أمام القانون، وتوفر مؤسسات تعمل على صيانة القانون وتحقيق سيادته.
– مواجهة الفساد: الفساد لا يعشعش إلا مع غياب الشفافية وغياب العدل وغياب المساواة، وغياب الرقابة، وحضور الاستبداد.
«الأتمتة» وسيلة وليست غاية وانفصالها عن القيم العليا في الحكم يحوّل الدولة إلى وحش
لقد أثرت «الأتمتة» في الطريقة التي تدير بها الحكومات دولاب الدولة، ففي الدول المتقدمة، التي تتوفر فيها الشفافية والمحاسبة والكفاءة الإدارية والحرية السياسية واحترام حقوق الإنسان، جاءت «الأتمتة» لتضيف تيسيراً ورفاهية للمواطن، في تعامله مع الحكومة ومؤسساتها، فكان المواطن أكثر اطلاعاً على كفاءة الحكومة في الإدارة وأكثر رقابة لقدرتها على الإنجاز، وهو ما ساهم في تحسين الأداء الحكومي، ووصول خدمات الحكومة إلى الغالبية العظمى من المواطنين بكفاءة وسرعة.
وأتاحت «الأتمتة»، في تلك التجارب، قدراً كبيراً من الشفافية، من خلال توفير المعلومات للمواطن، وتيسير اطلاعه عليها، والتفاعل معها، والاستفادة منها، كما ساهمت «الأتمتة» في تقليل الفساد بنسبة مذهلة، ومكَّنت من الكشف عنه بصورة كبيرة، ومارس المواطن قدراً من الرقابة، من خلال التبليغ عن الفساد وإيصال الخطأ للمستويات الإدارية الأعلى، وإلى الإعلام الذي أدى دوراً مؤثراً في الرقابة في الدول الديمقراطية.
ومن أهم ما وفرته «الأتمتة» للوصول إلى مفهوم الحكم الرشيد، في الدولة المتقدمة، الكشف عن سرعة الاستجابة الحكومية للاحتياجات والاهتمامات والشكاوى والمشكلات التي يرفعها المواطن عبر الآليات الرقمية، وسمحت للمستويات الإدارية والسياسية الأعلى بالاطلاع الجيد على حقيقة موقف المواطنين من الخدمات التي تقدمها الدولة، وفق مؤشرات واضحة، بعيداً عن أي تلاعب في استطلاعات الرأي، التي قد تجرى بصورة تجامل الحكومة، ولا تفصح عن الموقف الحقيقي للمواطن.
الوجه الآخر لـ«الأتمتة»
«أتمتة» الحكم أو حوكمته، لا يعني الوصول للحكم الرشيد؛ لأن هذا يعني أن تتحول آليات ممارسة الحكم إلى قيم، ووسائل تحقيق القيم العليا للمجتمع من خلال السلطة، لتصبح قيماً مستقلة، فهناك مخاوف أن تتحول «الأتمتة» إلى قيمة في حد ذاتها، ومسعى من جانب السلطة لتحقيقه، دون أن تنشغل بتحقيق القيم العليا للحكم؛ كالعدل والشفافية والحرية والمساواة.
.. ورغم فوائدها قد تؤدي إلى ترسيخ القيم الاستبدادية مع تغييب السلطة للحريات في المجتمع
ولعل هذا ما حذر منه المفكر عبدالوهاب المسيري، في كتاب «العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة»، بتأكيد أن «صياغة القوانين العلمية بدقة بالغة، والمعرفة العلمية والتنظيم الرشيد، قد تساعد كلها على التوصل إلى الطرق المناسبة لإنجاز الأهداف الاجتماعية، ولكنها لا تساعدنا على الاختيار بين قيم مطلقة، أو أهداف متناقضة، أو على اتخاذ قرارات أخلاقية، فالعلم في نهاية الأمر لا علاقة له بقضية اختيار الحياة الفاضلة؛ فثمة هوة شاسعة بين المعرفة العقلانية والحكم الأخلاقي».
أما الخطورة الثانية، فـ«الأتمتة» تظل وسيلة وليست غاية، وانفصالها عن القيم العليا في الحكم من عدل ومساواة وحرية يحول الدولة إلى وحش يحكم قبضته على المجتمع بصورة شبه كاملة، من خلال السيطرة على كل المصالح والموارد والتحكم فيها، بل إن «الأتمتة» قد تحول السلطة إلى «الدولة التنين» التي تحدث عنها «توماس هوبز» في القرن السابع عشر الميلادي، تلك الدولة التي يتنازل فيها المواطن عن حقوقه وحرياته من أجل الحفاظ على سلامته وأمنه، فوفق «هوبز» تتحصل الدولة على سلطة مطلقة، باعتبارها تجسيداً لإرادة المجموع، ولا يمكن مقاومة تلك الدولة التنين!
و«الأتمتة» -رغم أنها صيحة العصر، ورغم فوائدها العظيمة- قد تؤدي إلى ترسيخ القيم الاستبدادية، مع تغييب السلطة للحريات في المجتمع، وهنا تتحول «الأتمتة» لأداة للسيطرة والإخضاع الكامل، وإحدى أدوات السلطة لقمع الحرية ووأدها، وإحدى تقنيات الاستبداد، وتحول السلطة إلى كائن غير مرئي، وهي حالة لم تعرفها البشرية من قبل.
فالاستبداد -رغم بشاعته وقسوته- كان يُمارس ضمن حدود الطاقة البشرية الطبيعية، وليس ضمن قدرة الآلة الهائلة، التي يتحكم فيها عدد قليل جداً من المبرمجين وأصحاب السلطة وكبار رجال الحكم والإدارة في ملايين الناس، من خلال تعامل غير مرئي، وربما تؤدي تلك الحالة إلى إزاحة مفهوم الحياة عن ملايين الناس، لتتمحور الحياة حول تلك «الأتمتة» وبرامجها المعقدة غير المرئية.
تؤكد البيانات والإحصاءات أن ثلثي الاقتصاد العالمي يعتمد على الخدمات وليس السلع، وأن «الأتمتة» اتجاه متصاعد في العالم، خاصة أن أكثر من 40% من الوظائف في العالم يمكن «أتمتتها» في السنوات القادمة.
ويشير تقرير للاتحاد الدولي للروبوتات إلى زيادة كثافة الروبوتات في الصناعات، فوصلت عام 2021م إلى 126 قادرة على الإحلال مكان 10 آلاف عامل، هذا الاتجاه حذرت منه تقارير للأمم المتحدة، من أن التكنولوجيات الرقمية قد تهدد الخصوصيات، وتؤدي إلى تقليص الأمن وتفاقم عدم المساواة، وأنها قد تنطوي على آثار سلبية بالنسبة لحقوق الإنسان، خاصة في ظل أن التكنولوجيات الرقمية وصلت إلى نصف سكان الدول النامية.
«الأتمتة» لا تخرج عن كونها طريقة إدارة لكن تبقى الحكومة الراشدة هي التي تحترم حقوق الإنسان
من ناحية ثانية، هناك مؤشرات على تراجع الديمقراطية عالمياً، وربط دراسات بين «الأتمتة» وتراجع الديمقراطية، وهو ما ظهر في دراسة لجامعة أكسفورد إبان الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016م، وتؤكد دراسات أخرى أن «الأتمتة» لا يتوقف تأثيرها على الجانب الاقتصادي، فحسب، ولكن يمتد للمجال السياسي.
والحقيقة أن «الأتمتة» لا تخرج عن كونها أداة، أو طريقة إدارة، لكن تبقى الحكومة الرشيدة والراشدة هي التي تحترم حقوق الإنسان، وتلتزم الشفافية في ممارستها، وتنتهج العدل وتُعلي من سيادة القانون، وتتبع سياسية تنموية ناجحة وناجزة، تحاصر الفقر، وترفع مستوى معيشة المواطن، فالفقر والإفقار من أكثر البيئات غير الصالحة للديمقراطية والحكم الرشيد، فتلك البيئات استبدادية قمعية ذات مستويات عالية من الفساد، وذات كفاءة إدارية متدنية، وتطبيق «الأتمتة» في تلك التجارب البائسة يزيد معاناة المواطن، ويحول دون تحقيق الحكم الرشيد، ومن ثم فالإنسان وحقوقه تأتي قبل «الأتمتة» واللجوء إلى الآلات الذكية لإدارة الدولة الفاشلة، فـ«الأتمتة» ليست حلاً سحرياً للوصول إلى الحكم الرشيد.
_______________________________
(1) «الأتمتة» مصطلح حديث، تعرفه قواميس غربية بأنه استبدال أجهزة الكمبيوتر والآلات محل الأفراد، لأداء المهام مع تقليل العنصر البشري حضوراً وتدخلاً إلى أدنى مستوى.