يبدأ كتاب «آداب الفتوى والمفتي والمستفتي» لأبي زكريا يحيي بن شرف النووي الدمشقي(1) بذكر خطورة التعرض للفتوى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعدم جرأة الصحابة على الإقدام على الفتوى إلا حين يستوثق المفتي من فتواه من أبواب عديدة وآراء ثقة ومصادر صادقة.
يقول الإمام النووي عن الإفتاء: إنه باب عظيم الخطر، فالمفتي وارث الأنبياء، قائم على الشريعة وأمين عليها، ولذلك فشخصية المفتي لها شروط مشددة خشيها الصحابة والتابعين وتهربوا منها شفقة من تحمل تبعاتها، فيقول الإمام النووي: أدركت عشرين ومائة من الأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل عن المسألة فيردها هذا إلى هذا، وهذا إلى هذا، حتى ترجع إلى الأول، وفي رواية: ما منهم من يحدث بحديث إلا ود أن أخاه كفاه إياه، ولا يستفتى عن شيء إلا ود أن أخاه كفاه الفتيا.
وعن ابن مسعود، وابن عباس: من أفتى في كل ما يسأل فهو مجنون، وعن الشافعي وقد سئل في مسألة فلم يجب، فقيل له، فقال: حتى أدري أن الفضل في السكوت أو الجواب، وعن الأثرم: سمعت أحمد بن حنبل يكثر أن يقول: لا أدري، وذلك فيما عرف الأقاويل فيه.
واختيار المفتي مسؤولية إمام المسلمين، فقال الخطيب: ينبغي للإمام أن يتصفح أحوال المفتين، فمن صلح للفتيا أقره، وروي عن الإمام مالك قال: ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك.
الوجه الأول: في آداب المفتين:
– الإفتاء فرض كفاية، فإذا استفتي وليس في الناحية غيره تعين عليه الجواب.
– إذا أفتى بشيء ثم رجع عنه، فإن علم المستفتي برجوعه ولم يكن قد عمل بالأول لم يجز له العمل بالرأي الأول، وذلك كما لو تغير اجتهاد من قلده في القبلة في أثناء صلاته، وإن كان عمل قبل رجوعه، فإن خالف دليلاً قاطعاً لزم المستفتي نقض عمله ذلك، وإن كان في محل اجتهاد لم يلزمه نقضه.
– يحرم التساهل في الفتوى، ومن عرف به حرم استفتاه.
– ينبغي ألا يفتي في حال تغير خلقه لمسألة تمنعه التأمل كالغضب والجوع والرفح الغالب والنعاس أو المرض الملم.
– المختار المتصدي للفتوى أن يتبرع بذلك إلا أن يكون أجراً من بيت مال المسلمين، ولا يجوز أن يقبل أجراً من المستفتي لأن فيها شبهة الرشوة.
– لا يجوز أن يفتى في الأيمان والإقرار ونحوهما مما يتعلق بالألفاظ، إلا أن يكون من أهل بلد اللافظ أو خبيراً بمرادهم من الألفاظ.
– ينبغي ألا يقتصر في فتواه على قوله: في المسألة خلاف أو وجهان أو روايتان، فمقصود المستفتي بيان ما يجب العمل به، فينبغي أن يجزم له بما هو الراجح، فإن لم يعرفه توقف حتى يظهر أو يترك الإفتاء.
الوجه الثاني: في آداب الفتوى:
– يلزم المفتي أن الجواب بيان يزيل الإشكال.
– إذا كان المستفتي بعيد الفهم فليرفق به ويصبر على تفهم جوابه.
– يستحب أن يقرأها على حاضريه ويشاورهم ويباحثهم برفق وإنصاف.
– يكتب الجواب بخط واضح وسط، لا دقيق خاف، ولا غليظ جاف، وعبارته واضحة صحيحة، تفهمها العامة ولا يزدريها الخاصة.
– يختصر جوابه ويكون بحيث تفهمه العامة.
– ينبغي إذا ضاق موضع الجواب ألا يكتبه في رقعة أخرى خوفاً من الحيلة.
إذا رأى المفتي المصلحة أن يفتي العامي بما فيه تغليظ وهو مما لا يعتقد ظاهره، وله تأويل جاز ذلك زجراً له كما روى عن ابن عباس أنه سئل عن توبة القاتل، فقال: لا توبة له، وسأله آخر فقال: له توبة، ثم قال: أما الأول، فرأيت في عينيه إرادة القتل، فمنعته، وأما الثاني فجاء مستكيناً قد قتل فلم أقنطه.
– إذا لم يفهم المفتي السؤال أصلاً ولم يحضر صاحب الواقعة يكتب: «يزداد في الشرح لنجيب عنه»، أو «لم أفهم ما فيها فأجيب».
– إذا سئل فقيه عن مسألة من تفسير القرآن العزيز، فإن كانت تتعلق بالأحكام أجاب عنها وكتب خطة بذلك، كمن سئل عن الصلاة الوسطى والقرء ومن بيده عقدة النكاح، وإن كانت ليست من مسائل الأحكام كالسؤال عن الرقيم والنقير والقطمير والغسلين رده إلى أهله ووكله إلى من نصب نفسه له من أهل التفسير.
الوجه الثالث: في آداب المستفتي وصفته وأحكامه وفيه مسائل:
– في صفة المستفتي: كل من لم يبلغ دجة المفتي فهو فيما يسأل عنه من الحكام الشرعية مستفت ومقلد من يفتيه.
– يجب على المستفتي قطعاً البحث الذي يعرف به أهلية من يستفتيه للإفتاء إذا لم يكن عارفاً بأهليته، وإذا اجتمع اثنان فأكثر ممن يجوز استفتاؤهم ففي المسألة أمران:
الأول: لا يجب عليه البحث فيمن يستحق الاستفتاء والبحث عن ورعه وعلمه وله أن يختار أحدهما دون البحث.
الثاني: يجب عليه المفاضلة بالبحث عن الأحق منهم بالاستفتاء، وإن كان أحدهما أعلم والثاني أورع، فعليه أن يتبع الأعلم على الأصح.
– هل يجوز للعامي أن يتخير ويقلد أي مذهب شاء؟ يقول الشيخ أبو عمرو بن الصلاح(2): ينظر إن كان منتسباً إلى مذهب يكون على وجهين؛ الأول: لا مذهب له لأن المذاهب لعارف الأدلة، فعلى هذا له أن يستفتي من شاء من حنفي وشافعي وغيرهما، والثاني: وهو الأصح عند القفال: له مذهب، فلا يجوز مخالفته.
– إذا اختلفت عليه فتوى مفتيين ففيه 5 أوجه؛ الأول: أن يأخذ بأغلظهما، الثاني: أن يأخذ بأيسرهما، الثالث: يجتهد في الأولى فيأخذ بفتوى الأعلم الأورع كما سبق إيضاحه، الرابع: يسأل مفتياً آخر، فيأخذ بفتوى من وافقه، الخامس: يتخير، فيأخذ بقول أيهما شاء، وهذا هو الصحيح عند الشيخ أبي إسحاق الشيرازي المصنف(3).
– إذا لم يكن في الموضع الذي فيه مفت واحد فأفتاه، لزمه فتواه
– إذا استفتى فأفتي، ثم حدثت تلك الواقعة له مرة أخرى، فهل يلزمه تجديد السؤال؟ وفيه وجهان؛ الأول: يلزمه تجديد السؤال لاحتمال تغير رأي المفتي، والثاني: لا يلزمه وهو الأصح لأنه قد عرف الحكم الأول، والأصل استمرار المفتي عليه.
– أن يستفتي بنفسه، وله أن يبعث ثقة يعتمد خبره ليستفتي له.
– ينبغي للمستفتي أن يتأدب مع المفتي، ويبجله في خطابه وجوابه.
هذا باختصار كتاب «آداب الفتوى والمفتي والمستفتي»، ولمن أراد المزيد من التفاصيل لأهمية الكتاب لكل مسلم أن يعود إليه وقد جاء الكتاب في 96 صفحة، وعاينه بسام عبد الوهاب الجابي(4).
_____________________
(1) أبو زكريا يحيى بن شرف بن مُرِّيِّ بن حسن بن حسين بن محمد جمعة بن حِزام الحزامي النووي الشافعي (631 – 676هـ/ 1233 – 1277م) المشهور باسم «النووي»، هو مُحدّث وفقيه ولغوي مسلم، وأحد أبرز فُقهاء الشافعية، اشتهر بكتبه وتصانيفه العديدة في الفقه والحديث واللغة والتراجم، كرياض الصالحين والأربعين النووية ومنهاج الطالبين والروضة.
(2) أبُو عَمْرٍو عُثْمَانُ ابْنُ المُفْتِي صَلاَحِ الدِّيْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بنِ عُثْمَانَ بنِ مُوْسَى الكردي، الشَّهْرُزُوْرِيُّ الشَّافِعي، المَوْصِلِيُّ المعروف بـابن الصلاح (577 – 643هـ/ 1181 – 1245م) أحد علماء الحديث تفقه على والده المعروف بشهرزور، ثم اشتغل بالموصل مدة ودرس بالمدرسة الصلاحية ببيت المقدس مديدة.
(3) أبو إسحاق إبراهيم بن على الشيرازي، شيخ الشافعية في وقته، ولا يزال يعد من أهم شيوخها، الإمام الفقيه، ولد بفيروزآباد في بلاد فارس عام 393هـ، والمتوفى ببغداد عام 476هـ.
(4) بسام عبدالوهَّاب الجابي، باحثٌ، محقق، ناشر، ولد في دمشق سنة 1372هـ/ 1953م، وتوفي 19 شعبان 1438هـ/ 16 مايو 2017م، وله 64 عاماً.