تبيّن أنّ المدافعة شرط في تقويم المسار الإنساني، ولأنها عملية تراكمية ممتدة في التاريخ البشري ومنبسطة في المكان الإنساني، فإنّها تُنجز بالتراكم، وبالتضافر بين الأفعال المندرجة في سياقها مهما بدت صغيرة أو غير مؤثّرة بمجرّدها، ولذلك منح القرآن مساحات خاصّة للأفعال الجزئية، التي قد تبدو صغيرة، أو لا يُفهم تأثيرها بأوّل النظر، وذلك لأنّ المسؤولية أساسًا فرديّة، والاجتماع العامّ على الخير ودفع الظلم ينتظم من أفراد، ولأنّها ثانيًا مثمرة حتى لو لم تظهر ثمرتها واضحة أوّل النظر.
قصّ القرآن قصّة مؤمن آل فرعون، وهو فرد واحد نهض بمسؤوليته في موضع بالغ الخطر للدفاع عن موسى عليه السلام، وخالف بذلك قومه وملأه انحيازًا للحقّ.
وبعبارات متقاربة، ذكر الرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ينصح موسى بالخروج من مصر، والرجل الذي جاء من أقصى المدينة يسعى ينتصر للمرسلين في سورة «يس».
وكان للمؤمنين المحرقين في نار الأخدود موضعهم الخاصّ من الذكر القرآني، وقد وصف تعالى مآل تلك المجموعة من المؤمنين بالفوز الكبير؛ ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ (البروج: 11)، بالرغم من أنّ ظاهر الأمر انقراض تلك الجماعة المؤمنة مرّة واحدة في نار الأخدود، وقد أضاء الحديث النبوي على التأسيس الفردي لانتظام هذه المجموعة، كما في صحيح مسلم، بحديثه صلّى الله عليه وآله وسلم، عن الغلام الذي مثّل محور القصة، وتلك المرأة التي جاءت «وَمَعَهَا صَبِيٌّ لَهَا، فَتَقَاعَسَتْ أَنْ تَقَعَ فِيهَا، فَقَالَ لَهَا الْغُلَامُ: يَا أُمَّهِ اصْبِرِي، فَإِنَّكِ عَلَى الْحَقِّ»، فاستحقّ لا فعلها فحسب، بل وفعل صبيّها أيضًا، التخليد في التاريخ، لأهمية موقع كلّ أحد في المكان الصحيح.
يزيد ذلك وضوحًا الحديث النبوي الشريف عن مواكب الأنبياء يوم القيامة، بما ينعكس عن مساراتهم الدعوية والجهادية في الدنيا، بقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «عُرِضَتْ عَلَيَّ الْأُمَمُ، فَرَأَيْتُ النَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّهْطَ وَالنَّبِيَّ وَمَعَهُ الرَّجُلَ وَالرَّجُلَيْنِ وَالنَّبِيَّ وَلَيْسَ مَعَهُ أَحَدٌ»، فالمدافعة للباطل بمفهومها الإيماني المقصود تتأسس على الحساسية الأخلاقية تجاه الواجب الفردي في الدنيا، ومن ثمّ كانت الصورة العامّة في التاريخ تتجلّى في الأنبياء الذين هم أفراد، ثمّ قد تتسع الصورة بالمقدار الملتف حول الأنبياء رجالاً ونساء، بل وحتى صبيانًا وغلمانًا، فلا ينطمس أثر عمل صالح، مهما كان محدودًا، ومهما كان فاعله، وهو ما أكّده القرآن أكثر من مرة في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (التوبة: 120)، فبقطع النظر عن الثمرة الدنيوية للفعل الإنساني، فإنّ دافعه الإيماني، الموصوف في القرآن بكونه إحسانًا، يتوخى الثمرة الأخروية في أصل الأمر.
تشدّد النصوص باستمرار على قيمة الفعل الفردي في صلاح الاجتماعي الإنساني، حتى لو كان كلمة أو ابتسامة أو كما في الحديث: «تَبَسُّمُكَ فِي وَجْهِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ، وَأَمْرُكَ بِالْمَعْرُوفِ، وَنَهْيُكَ عَنِ الْمُنْكَرِ صَدَقَةٌ، وَإِرْشَادُكَ الرَّجُلَ فِي أَرْضِ الضَّلَالِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَبَصَرُكَ لِلرَّجُلِ الرَّدِيءِ الْبَصَرِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِمَاطَتُكَ الْحَجَرَ، وَالشَّوْكَةَ، وَالْعَظْمَ عَنِ الطَّرِيقِ لَكَ صَدَقَةٌ، وَإِفْرَاغُكَ مِنْ دَلْوِكَ فِي دَلْوِ أَخِيكَ لَكَ صَدَقَةٌ»، فكيف بما زاد على ذلك، من جهاد، ودفع تضحيات باهظة، من النفس والمال والرزق والأمن؟ فكان مآل القتال في سبيل الله تعالى فوزًا عظيمًا؛ ﴿إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ﴾ (التوبة: 111).
تتأسس بذلك مفاهيم السبق، كالإشارة القرآنية إلى سبق المهاجرين والأنصار، والمنزلة التي جُعلت لأهل «بدر»؛ «لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَكُونَ قَدِ اطَّلَعَ عَلَى أَهْلِ بَدْرٍ فَقَالَ: اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ فَقَدْ غَفَرْتُ لَكُمْ»، فقد سبقوا إلى المعركة التي سميت في القرآن بكونها فرقانًا، وهي المعركة التي لو هُزم فيها المسلمون ما عُبِد الله تعالى في الأرض بعدها، وهي معركة فُرضت على المسلمين بحسابات غير التي قدروها، وفي ظرف غير متكافئ، فكان الانحياز فيها للقتال إلى جانب النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلّم انحيازًا خالصًا للحقّ، وقيامًا شديد الحساسية بالواجب.
مفهوم السبق هذا لا ينقطع، ما دامت الدنيا دار ابتلاء وتكليف، ومن ثمّ دار صراع بين الحق والباطل، كما في الحديث الشريف: «لَا هِجْرَةَ، وَلَكِنْ جِهَادٌ وَنِيَّةٌ، وَإِذَا اسْتُنْفِرْتُمْ فَانْفِرُوا»، ففوت الهجرة مع الأوائل هو فوت في حقّ من عايش سيدنا النبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم من أهل مكة، لكن من جاء بعدهم فإمكان السبق بالمبادرة متاح دائمًا ما كان داعي النفير قائمًا.
في تاريخ القضية الفلسطينية، ومنذ بداياتها مع الانتداب البريطاني، ومرورًا بالتاريخ الطويل للاستعمار الصهيوني وحتى اللحظة، كان للسبق بالمبادرة الفردية، وبقصد القيام بالواجب، الدور الحاسم في الحفاظ على القضية الفلسطينية، وجودًا وتجددًا، فما منع طمسها بالدرجة الأولى هو مقاومة الفلسطينيين، وما كان يحيي باستمرار مقولاتها الأساسية هو تلك المقاومة أيضًا، لكنّ تلك المقاومة ارتبطت باستمرار بالدور الفردي، سواء على مستوى تجديد الوعي أم على مستوى الفعل المقاوم، أم بالجمع بينهما، الذي كان من تجلياته تجربة الشيخ السوري عزّ الدين القسام القادم إلى حيفا في فلسطين، والمؤسس لفكرة الجهاد المسلح ضدّ الانتداب البريطاني ومجموعات الاستيطان الصهيوني الأولى المحتمية به، وهي التجربة التي ظلّت تلقي بروحها في التاريخ على الفلسطينيين وصولاً لتجربة «كتائب الشهيد عز الدين القسام»، وهي التجربة التي تمثّل، إلى جانب أخواتها، نموذجًا مكثّفًا على القيمة الحاسمة للمبادرات الفردية قيامًا بالواجب وانتظامًا في الجهد الجماعي.