قال تعالى: (وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ) (آل عمران: 133)، وقال تعالى: (سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ) (الحديد: 21).
هكذا أمرنا الله تعالى بأن نسارع ونسابق إلى الله تعالى طلباً لمغفرته سبحانه وتعالى وجنة عرضها السماوات والأرض، والعشر الأواخر من رمضان من أعظم الأوقات التي ينبغي للمسلم أن يغتنمها للوصول إلى مغفرة الله تعالى وجنته؛ ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان وطلباً لليلة القدر التي قال الله تعالى في إعلاء شأنها: (إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ {1} وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (القدر).
من أحكام الاعتكاف
الاعتكاف: لزوم المساجد للتخلي لطاعة الله عز وجل، وهو مسنون لتحري ليلة القدر، وقد أشار الله تعالى إليه في القرآن الكريم بقوله تعالى: (وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ) (البقرة: 187)، وثبت في الصحيحين وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم اعتكف، واعتكف أصحابه معه. (أخرجه البخاري: كتاب الاعتكاف، باب الاعتكاف (2036)).
وبقي الاعتكاف مشروعاً لم ينسخ، ففي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عز وجل، ثم اعتكف أزواجه من بعده» (أخرجه البخاري: باب الاعتكاف في العشر الأواخر (2026)، ومسلم: باب اعتكاف العشر الأواخر من رمضان (1172)).
وفي صحيح مسلم عن أبي سعيد الخدري قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتكف العشر الأول من رمضان، ثم اعتكف العشر الأوسط، في قبة تركية على سدتها حصير، قال: فأخذ الحصير بيده فنحاها في ناحية القبة، ثم أطلع رأسه فكلم الناس، فدنوا منه، فقال: «إني اعتكفت العشر الأول، ألتمس هذه الليلة، (أي ليلة القدر)»، ثم اعتكفت العشر الأوسط، ثم أُتِيتُ، فقيل لي: «إنها في العشر الأواخر، فمن أحب منكم أن يعتكف فليعتكف» فاعتكف الناس معه. (أخرجه البخاري: باب الاعتكاف في العشر الأواخر (2027)).
وقال الإمام أحمد: لا أعلم عن أحد من العلماء خلافاً أن الاعتكاف مسنون، وعلى هذا يكون الاعتكاف مسنوناً بالنص والإجماع، ومحله المساجد التي تقام فيها الجماعة في أي بلد كان لعموم قوله تعالي: (وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ)، والأفضل أن يكون المسجد الذي تقام فيه الجمعة لئلا يحتاج إلى الخروج إليها، فإن اعتكف في غيره فلا بأس أن يُبكر إلى صلاة الجمعة، وينبغي للمعتكف أن يشتغل بطاعة الله عز وجل من صلاة وتلاوة القرآن، وذكر الله عز وجل؛ لأن هذا هو المقصود من الاعتكاف، ولا بأس أن يتحدث إلى أصحابه قليلاً، ولا سيما إذا كان في ذلك فائدة، ويحرم على المعتكف الجماع ومقدماته، وأما خروجه من المسجد فقد قسمه الفقهاء إلى 3 أقسام:
الأول: جائز، وهو الخروج لأمر لا بد منه شرعاً، أو طبعاً، كالخروج لصلاة الجمعة، والأكل، والشرب إن لم يكن له من يأتيه بهما، والخروج للوضوء، والغسل الواجبين، ولقضاء حاجة البول والغائط.
الثاني: الخروج لطاعة لا تجب عليه كعيادة المريض، وشهود الجنازة، فإن اشترطه في ابتداء اعتكافه جاز، وإلا فلا.
الثالث: الخروج لأمر ينافي الاعتكاف كالخروج للبيت والشراء، وجماع أهله ونحو ذلك فهذا لا يجوز بشرط، ولا بغير شرط(1).
أقل مدة الاعتكاف
اختلف العلماء في أقل مدة لصحة الاعتكاف: فذهب الجمهور إلى أن أقله ما يطلق عليه اعتكاف عرفاً.
قال ابن عابدين (من علماء الأحناف): وأقله ساعة من ليل أو نهار، وقال منصور البهوتي (من علماء الحنابلة): وأقله أي الاعتكاف ساعة، وقال محمد بن أبي العباس الرملي (من علماء الشافعية): والأصح أنه يشترط في الاعتكاف لبث قدر يسمى عكوفاً؛ أي: إقامة، ولو بلا سكون بحيث يكون زمنها فوق زمن الطمأنينة في الركوع ونحوه، ويرى المالكية أن أقل مدة الاعتكاف يوم وليلة.
________________________
(1) كتاب «فتاوى أركان الإسلام»، الشيخ محمد بن صالح بن محمد العثيمين (ت 1421هـ)، جمع وترتيب: فهد بن ناصر بن إبراهيم السليمان.