رمضان خير الشهور عند الله، وفيه ليلة القدر؛ ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ {2} لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ {3} تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ {4} سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ﴾ (القدر)، وتأتي ليلة القدر في العشر الأواخر من شهر رمضان، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه يحرصون على اغتنام العشر الأواخر والاجتهاد في العبادة فيها.
فما أهم الواجبات التي نفعلها في العشر الأواخر من رمضان؟
أولاً: الفرح بها وحسن الاستعداد لها: فهي أيام خير وفضل وطاعة لله تعالى، والمؤمن يفرح بطاعة الله؛ وكان أصحاب النبي ﷺ يتزينون لهذه العشر، بالاغتسال والتطيب في كل ليلة من لياليها، ولبس أجمل الثياب.
فعن حماد بن سلمة، عن ثابت، أن تميم الداري اشترى حلة بألف درهم، فكان يلبسها في الليلة التي يرجى أن تكون ليلة القدر(1)، وكان النخعي يغتسل في كل ليلة من ليالي العشر، وروي عن أنس بن مالك أنه إذا كان ليلة أربع وعشرين اغتسل وتطيب ولبس حلة إزار أو رداء(2).
ففي هذا دليل على احتفال الصحابة والتابعين بهذه الأيام العشر وحسن استعدادهم واستقبالهم لها.
ثانياً: الاجتهاد في العبادة: فقد كان النبي ﷺ إذا دخلت العشر الأواخر من رمضان اجتهد في العبادة، ففي صحيح مسلم عن السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر الأواخر ما لا يجتهد في غيرها»، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة، قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»؛ وشد المئزر كناية عن عزم الأمر والانشغال بالعبادة؛ والمعنى أن من كان في رمضان يقرأ القرآن ويصلي القيام وينفق على المساكين فإنه يجتهد أكثر من ذلك في هذه العشر، فعن أبي بكر أنه كان يصلي في العشرين الأولى من رمضان كما يصلي في سائر السنة، فإذا دخلت العشر الأواخر اجتهد أكثر من ذلك(3).
ثالثاً: تحري ليلة القدر والحرص على قيامها: ففي صحيح البخاري ومسلم، عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، أن النبي ﷺ قال: «تَحرَّوا ليلةَ القَدْر في العَشْر الأواخِر من رمضانَ»، ويكون التحري لها بفعل الطاعة وحسن القيام، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي هريرة، قال: «مَن قَامَ لَيْلَةَ القَدْرِ إيمَانًا واحْتِسَابًا، غُفِرَ له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنْبِهِ».
رابعاً: الإكثار من الدعاء: حيث أمر النبي ﷺ السيدة عائشة به في هذه الأيام، فقد أخرج الترمذي والنسائي عن أم المؤمنين عائشة، قالت: قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، أرأيْتَ إنْ وافَقتُ لَيلةَ القَدْرِ، ما أقولُ فيها؟ قال: «قولي: اللَّهمَّ إنَّكَ عَفوٌّ تُحِبُّ العَفْوَ فاعف عني»، وقال سفيان الثوري: الدعاء في تلك الليلة أحب إليّ من الصلاة، ومراده: أن كثرة الدعاء أفضل من الصلاة التي لا يكثر فيها الدعاء، وإن صلى ودعا كان حسناً(4).
خامساً: العفو عن الناس وإصلاح ذات البين: فإن الخصام يحجب الخير عن الناس، فقد روى البخاري عن عبادة بن الصامت قال: خَرَجَ النبيُّ ﷺ لِيُخْبِرَنَا بلَيْلَةِ القَدْرِ فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ فَقَالَ: «خَرَجْتُ لِأُخْبِرَكُمْ بلَيْلَةِ القَدْرِ، فَتَلَاحَى فُلَانٌ وفُلَانٌ، فَرُفِعَتْ وعَسَى أنْ يَكونَ خَيْرًا لَكُمْ»، وقوله: فَتَلَاحَى رَجُلَانِ مِنَ المُسْلِمِينَ؛ يعني تخاصما وتنازعا ورفعا أصواتهما، وقوله: فَرُفِعَتْ؛ يعني أُنْسِيت وقتها، فينبغي لمن أراد اغتنامها والفوز بثوابها أن يصلح ما بينه وبين الناس، وأن يترك الخصام والنزاع، فليلة القدر هي ليلة العفو، ومن أراد أن يعفو الله عنه فليعف عن الناس.
سادساً: الاعتكاف: ومعناه الإقامة في المسجد بنية العبادة، وقد فعله النبي ﷺ، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة، أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يَعْتَكِفُ العَشْرَ الأوَاخِرَ مِن رَمَضَانَ، حتَّى تَوَفَّاهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ، ثُمَّ اعْتَكَفَ أَزْوَاجُهُ مِن بَعْدِهِ.
وقد بيّن النبي ﷺ أنه كان يعتكف من أجل تحري ليلة القدر، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري، قال: إنَّ رَسولَ اللهِ ﷺ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوَّلَ مِن رَمَضَانَ، ثُمَّ اعْتَكَفَ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثم قال: «إنِّي اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوَّلَ، أَلْتَمِسُ هذِه اللَّيْلَةَ»، ثُمَّ اعْتَكَفْتُ العَشْرَ الأوْسَطَ، ثُمَّ أُتِيتُ، فقِيلَ لِي: «إنَّهَا في العَشْرِ الأوَاخِرِ، فمَن أَحَبَّ مِنكُم أَنْ يَعْتَكِفَ فَلْيَعْتَكِفْ» فَاعْتَكَفَ النَّاسُ معهُ.
فلنحرص على الاعتكاف في هذه العشر، من استطاع أن يعتكف اعتكافاً كاملاً فليفعل، بمعنى أن يبقى في المسجد ولا يخرج إلا لضرورة، ومن لم يستطع فليعتكف اعتكافاً جزئياً بحيث يقتطع من وقته ليمكث في المسجد ما تيسر له بنية الاعتكاف.
سابعاً: دعوة الأهل إلى الاجتهاد في الطاعة: حيث كان النبي ﷺ يحرص على ذلك، ففي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة، قالت: «كان رسول الله ﷺ إذا دخل العشر الأواخر من رمضان شدّ مئزره، وأحيا ليله، وأيقظ أهله»، وفي صحيح البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يَطرُقُ فاطِمةَ وعلِيًّا لَيلًا فيَقولُ لهما: «ألَا تَقومانِ فتُصَلِّيانِ؟»، وفي صحيح البخاري ومسلم عن أم المؤمنين عائشة، أنَّ النبيَّ ﷺ كانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ، فَإِذَا أَوْتَرَ، قالَ: «قُومِي فأوْتِرِي يا عَائِشَةُ».
وأخرج الإمام مالك في «الموطأ»، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ عَنْ أَبِيهِ، أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ كَانَ يُصَلِّي مِنَ اللَّيْلِ مَا شَاءَ اللَّهُ، حَتَّى إِذَا كَانَ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ، أَيْقَظَ أَهْلَهُ لِلصَّلَاةِ، يَقُولُ لَهُمُ: «الصَّلَاةَ الصَّلَاةَ ثُمَّ يَتْلُو هَذِهِ الْآيَةَ: (وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى) (طه: 132)».
ففي هذه المواقف ما يؤكد أن المسلم لا يترك أهله، بل يدعوهم إلى اغتنام هذه الأيام المباركة بالقيام والدعاء وقراءة القرآن.
ثامناً: إخراج زكاة الفطر: ففي صحيح البخاري ومسلم عن عبدالله بن عمر قال: «فَرَضَ رَسولُ اللَّهِ ﷺ زَكَاةَ الفِطْرِ صَاعًا مِن تَمْرٍ، أوْ صَاعًا مِن شَعِيرٍ علَى العَبْدِ والحُرِّ، والذَّكَرِ والأُنْثَى، والصَّغِيرِ والكَبِيرِ مِنَ المُسْلِمِينَ، وأَمَرَ بهَا أنْ تُؤَدَّى قَبْلَ خُرُوجِ النَّاسِ إلى الصَّلَاةِ»، فهي زكاة مفروضة على الصغير والكبير والرجل والمرأة ممن أدركوا شهر رمضان الكريم، وهي طهرةٌ للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين، وقد فرضها النبي ﷺ إغناءً للفقير في يوم العيد، فيجب إخراجها قبل صلاة العيد، ويمكن التعجيل بها قبل انتهاء شهر رمضان المبارك.
من خلال ما سبق يتبين أن العشر الأواخر من رمضان أيام مباركة، وفيها ليلة مباركة، هي ليلة القدر، فيجب على كل مسلم أن يغتنم هذه الأيام ويستزيد فيها من العمل الصالح.
__________________________
(1) سير أعلام النبلاء: للذهبي (2/ 447).
(2) لطائف المعارف: لابن رجب الحنبلي، ص 222.
(3) المرجع السابق، ص 229.
(4) المرجع السابق، ص 230.